اتصلت كوكب الشرق أم كلثوم تليفونيا بسامى شرف، وطلبت لقاءه فى نفس اليوم، فحدد لها الساعة السابعة مساء 12 أكتوبر «مثل هذا اليوم 1970»، وجرى اللقاء فى الموعد، حسب روايته فى الجزء الخامس من مذكراته «سنوات وأيام مع جمال عبدالناصر».
كان اللقاء بعد أسبوعين من وفاة جمال عبدالناصر «28 سبتمبر 1970»، ووفقا لشرف: «بعد أن جلست، قالت بلا مقدمات وعيناها مغرورقتان بالدموع: «يا أستاذ سامى أنا بأفكر إنى اعتزل لأنى مش متصورة إنى حاقدر أقف على خشبة المسرح لأغنى بعد ما رحل عنا جمال عبدالناصر.. حد كان يصدق إنه يموت فى هذه السن، أوفى هذا الوقت وفى هذه الظروف.. ده آخر مرة قابلته كان يقول لى، إنه لم ولن يفقد الأمل فى تحرير الأرض.. آدى باعث الأمل مات.. طيب إحنا حانعمل إيه؟».
تلقت أم كلثوم خبر رحيل عبدالناصر وهى فى موسكو، لإحياء أربع حفلات فى جمهوريات الاتحاد السوفيتى لصالح المجهود الحربى، وسبق لها إحياء حفلات لهذا الغرض بعد نكسة 5 يونيو 1967 فى باريس وتونس والمغرب والكويت ولبنان والسودان، بالإضافة إلى محافظات مصرية.
ألغت برنامجها فى الاتحاد السوفيتى، وعادت إلى القاهرة حزينة مكسورة، وحسب وصف السفير وفاء حجازى، قنصل مصر فى موسكو وقتئذ، فى شهادته لى ضمن كتابى «أم كلثوم وحكام مصر»: «كانت هناك حفاوة سوفيتية بالغة بها، فوزيرة الثقافة السوفيتية استقبتلها فى المطار، وكانت تتابع بنفسها برنامجها، كان التعامل معهاعلى أنها أهم شخصية فى مصر بعد جمال عبدالناصر، وانقلبت هذه الأجواء الاحتفالية إلى أحزان بعد أن تلقينا خبر وفاة عبدالناصر، وأبلغها ابن شقيقتها رفعت الدسوقى بالخبر الحزين، ومن رآها وقتئذ بدا أن عمرا جديدا أضيف لعمرها، ذهب شروق الوجه وأصبح مثل وشاحها الأسود وملابسها السوداء، ولما وصلت إلى مقر السفارة التى فتحت أبوابها لتقديم واجب العزاء، ارتمت باكية فى أحضان الدكتور مراد غالب السفير المصرى فى موسكو، استمع الجميع لبكائها، وبادلها غالب البكاء».
ويكشف عادل حمودة فى «الخطابات المتبادلة بين جمال عبدالناصر وقرينته تحية كاظم- صحيفة البيان- الإمارات»: «نزلت إلى مطار القاهرة، وطلبت نادية ابنة شقيق السيدة تحية فى التليفون لتصحبها فى تقديم العزاء، لعدم قدرتها على مواجهتها وهى فى هذه الظروف»، وكان المشهد بين الصديقتين لا ينسى، بكت أم كلثوم وهى تعانق تحية، وكأنها تبكى فقد ابنها».
فى هذه الأجواء الحزينة قفزت رغبة اعتزالها، ووفقا لمحمد حسنين هيكل لتليفزيون «المستقبل اللبنانى»، والمنشور فى «جريدة العربى- القاهرة- 12 ديسمبر- 1994»: «بعد وفاة عبدالناصر أحست بصدمة كبيرة جدا، أحست بنوع من اليتم ككثير من المصريين والعرب.. لم يكن لها مزاج للغناء بعد موته، وبدأت صحتها تتدهور».. ويؤكد الكاتب سعد الدين وهبة على نفس المعنى فى شهادته لى: «كل من راقب حالتها فى تلك الأيام اعتقد أنها لن تغنى ثانية».
يؤكد «شرف» أنه رد عليها: «يا ست، كلامك مضبوط لكنه ينقصه حاجة واحدة.. عارفة إيه هى؟ إننا نحقق الأمل اللى كان هو بيحلم به.. وإذا كنتى إنتى وغيرك يعتزل طيب مين بقى اللى حايحقق الأمل والحلم؟..إنتى نسيت هو قال لكى إيه بعد جولاتك الأخيرة؟.. قال لك، إنك تقومين بتعبئة عالمية لصالح قضية التحرير ولوحدك من غير جيش.. وأنك حققتى الوحدة العربية اللى بنحلم بها.. إنتى نسيتى ياست هذا الكلام؟» ويؤكد شرف: «اقتنعت الست».
تراجعت عن الاعتزال لكنها توقفت عن حفلاتها ثلاثة أشهر، وعادت يوم 7 يناير 1971، فى سينما قصر النيل، وحمل دراما حزينة، حيث بدأت بأغنية «الحب كله» كلمات أحمد شفيق كامل وألحان بليغ حمدى، وفى وصلتها الثانية غنت «ودارت الأيام» كلمات مأمون الشناوى وألحان محمد عبدالوهاب، وطوال ساعة و14 دقيقة قدمت غناء ممتعا، ثم انتقلت إلى حالة من الآهات الموجعة: «ودارت الأيام ومرت الأيام.. آه، آآآه، آآآه، آآآه، ودارت الأيام ومرت الأيام، آه، آآآه، آآآه، آآآه/ وهل الفجر بعد الهجر بلونه الوردى بيصبح/ ونور الصبح صحا الفرح/ وقال للحب قوم نفرح/ وهل.....».. لم تستكمل.. بكت.. ابتعدت عن الميكروفون.. طلع البكاء.. صفق الجمهور بجنون.
غنت «ودارت الأيام» خمس مرات أولها فى 5 مارس 1970، وحسب سعد الدين وهبة: «لما غنتها للمرة السادسة، بكت ونزلت الستارة لتغطى على هذا المشهد المأساوى، وأخبرتنى فيما بعد أنها تذكرت عبدالناصر»..يتذكر عمار الشريعى فى شهادته لى: «احترفت الموسيقى قبل شهور من هذا الحفل، وكنت بصحبة أصدقائى نستمع إليه، ولما حولت هى الغناء فى الكوبليه الأخير إلى موال، بكت، وابتعدت عن الميكروفون، لكن البكاء طلع، فصفق الجمهور بجنون، وقلنا جميعا فى صوت واحد: «هى افتكرت عبدالناصر»، وفى اليوم التالى للحفل قال الناس نفس ما قلناه، وهذه الواقعة أكدت لى موتها فنيا».