تلقى فتحى الديب، ضابط المخابرات المصرية ومسؤول الشؤون العربية برئاسة الجمهورية الخبر، فأصيب بحالة إغماء، أفاق منها بعد استدعاء الطبيب الخاص به الذى قام بعمل الإسعافات اللازمة.
كان الخبر هو «استيلاء السلطات البحرية الفرنسية على المركب «آتوس» يوم 17 أكتوبر «مثل هذا اليوم 1956»، حسبما يؤكد الديب فى كتابه «عبد الناصر وثورة الجزائر»، مؤكدا أن «آتوس» كانت تحمل شحنة أسلحة تشيكية، وأطقم معدات وملابس، وضفادع بشرية وأدوات ومهمات تفجير تحت المياه، وكانت فى طريقها من الإسكندرية إلى «خليج كاب داجوا» غرب الجزائر لتسليمها إلى جبهة وهران، لاستخدامها فى كفاح الثورة الجزائرية المسلح ضد الاستعمار الفرنسى.
كان «الديب» هو المنسق بين قيادات الثورة الجزائرية وجمال عبد الناصر، وبمقتضى ذلك أشرف وخطط لأكثر من عملية تهريب أسلحة عن طريق مصر إلى الداخل الجزائرى، وكان هو أيضا يقوم بشراء هذا السلاح بنفسه من الخارج بتمويل من جيش التحرير الجزائرى، ونجحت عمليات التهريب فيما عدا عملية «آتوس»، وكانت الشحنة العاشرة فى هذه العمليات، وفشلت بسبب خيانة صاحب المركب»إبراهيم النيال» السودانى الذى وثق فيه أحمد بن بيللا قائد الثورة الجزائرية، واقترح على»الديب» أن يتم استئجارها لرفعها العلم البريطانى، واستمرار احتفاظها بجنسيتها البريطانية بعد شراء «النيال» لها، وبالرغم من تحفظ «الديب» إلا أنه وافق فى النهاية بعد إلحاح «بن بيلا»، وإعطائه أوامر للنيال بإبحاره بالمركب من بيروت إلى الإسكندرية، مستخدما قبطانا مؤقتا، على أن يقوم الديب باختيار قبطان جديد غير مصرى ليتولى قيادتها فى رحلتها إلى وهران.
يشرح «الديب» كل الخطوات التى تمت لتجهيز المركب لتنفيذ العملية، حيث تم استئجار قبطان قبرصى لقيادة المركب، ودخولها ميناء الإسكندرية، وتكليف الشركة «الشرقية للملاحة والتجارة للقيام بكافة الإجراءات الجمركية لـ«آتوس» كوكيل مفوض من صاحبها «النيال»، وتم وضع خطة الشحن والإبحار للمركب بطريقة سرية من ميناء الإسكندرية، فى الوقت الذى كان «النيال» تحت مراقبة شديدة من الضابط بحرى «أمين عفت»، وإمعانا فى الحرص زود «الديب» المجموعة الجزائرية المسافرة بأصابع تفجير، وطالبهم بتفجير المركب فى حال وقوع أى أخطار تهدد وصول الشحنة لهدفها، وكانت هذه المجموعة من الضفادع البشرية للثورة الجزائرية الذين دربتهم مصر.
انشغل الجميع مساء 3 أكتوبر بتحميل المركب بشحنات السلاح والمسافرين من الجزائريين، وحسب «الديب»، فإن «النيال» ابتعد متحركا فى لداخل الميناء التجارى، ويذكر الديب: «طلبت من أمين عفت إحضاره فورا، ولكنه راوغ أمين وحاول الإفلات منه فى اتجاه بوابة الميناء، ونجح فى الاختفاء لخمس دقائق تقريبا، وأخيرا عثر عليه أمين عائدا، وبسؤاله عن سبب اختفائه، قال إنه كان يشترى سجائر»، يؤكد »الديب»: «أثبتت الأيام أن تلك الدقائق الخمس لعبت أخطر دور فى خيانة مصر والجزائر على حد سواء.. أوضحت الحقائق فيما بعد أن النيال فى خلال تلك الخمس دقائق اتصل تليفونيا بأحد جواسيس السفارة الفرنسية، وأبلغه بموعد إبحار المركب والموعد التقريبى لوصوله مكان الإنزال الذى عرفه خلال تسليمنا، وشرحنا لحظة التحرك والسير لقبطان المركب بعد إتمام تعبئة الشحنة».
غادرت «آتوس» ميناء الإسكندرية صباح يوم 4 أكتوبر 1956 فى طريقها المرسوم لتصل إلى خليج «كاب داجو»، ووفقا للديب: «مضى أسبوع لم تصلنا فيه أية أخبار، وانتظرت اعتبارا من 12 أكتوبر برقية الإفادة بنجاح إنزال الشحنة، إلا أن انتظارنا طال، وكانت المفاجأة الكبرى يوم 17 أكتوبر حينما تناقلت وكالات الأنباء استيلاء السلطات البحرية الفرنسية على «آتوس» قرب مكان الإنزال، وكان الخبر صدمة عنيفة على نفسى لم أحتملها، وأصيبت بحالة إغماء أفقت منها بعد استدعاء الطبيب الخاص بى، الذى قام بالإسعافات اللازمة».
يكشف «الديب» أن الرئيس عبد الناصر فور علمه بما حدث له وإفاقته من حالة الإغماء واسترداده لهدوء أعصابه طلبه للقائه بمبنى رئاسة مجلس الوزرا، ويتذكر الديب قول الرئيس له: «مالك زعلان ليه هو أنت متصور أن كل عملياتك لازم تنجح؟.. دى أول مركب يتمسك من ثمانية مراكب، ولازم تكون واقعى، إحنا قدراتنا محدودة ورغم كده نجحنا فى تهريب عدة مراكب، ولايهمك، أنا عاوزك تقوم بعملية تهريب جديدة بكرة، حتى لو اتمسكت برده شىء طبيعى، يجب ألا يهز أعصابنا، لأن اللى بيعمل فى العمل السرى لازم يتوقع النجاح والفشل».
يؤكد الديب أن التحريات التى وصلت مصر من مصادر سرية وخاصة، أكدت أن إبراهيم النيال تم إلقاء القبض عليه مع طاقم المركب للتمويه وإخفاء تآمره معهم، حيث وضع فى مكان منفرد بالسجن بعيدا عن باقى أفراد الطاقم، وأفرج عنه سرا ليغادر إلى فرنسا ومنها إلى الخرطوم بعد تسلمه مبلغ خمسين ألف جنيه ثمنا لخيانته، ويضيف: «تواردت المعلومات بعد ذلك عن انضمامه لحزب الأمة السودانى وتمويله لبعض نشاطات الحزب، وتوصله عن طريق ذلك إلى أن يكون إحدى شخصيات الحزب المرموقة».