بهدوء وبلا ضجيج أو استعراض حقق الفنان العبقرى أحمد مكى أرقاما قياسية فى نسب المشاهدة بنجاح أحدث أغنياته "أغلى من الياقوت" ، لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يحقق فيها الفنان متعدد المواهب هذا النجاح والقبول، بل يزداد تألقه وشعبيته مع كل عمل يطرحه.
استطاع مكى أن يحقق المعادلة الصعبة فغاص فى أعماق المجتمع وشوارعه وحواريه ومشاكل أبنائه، واستخرج فنا من لؤلؤ وياقوت، يحكى حدوتة بشر ويقدم نماذج وقصص وحكايات واقعية من لحم ودم.
لم يقع مكى فيما وقع فيه غيره ممن يدعون أنهم يعبرون عن المجتمع وينقلون صورته ومشاكله وهم يبررون ما يقذفونه فى وجوهنا من إسفاف وانحطاط، استطاع أن يجعل كل من يرى ويسمع أغانيه يشعر بأنه يرى نفسه أو أحد المقربين له.
فى أحدث نجاحاته "أغنية أغلى من الياقوت" تحدث عن مشاعره نحو ابنه وأمنياته له، شعر كل أب أنه يعبر عما يريد أن يقوله لأبنائه، قدم نموذج حى للأب الذى يعترف بأنه ليس مثاليا ولكنه يتمنى أن يرى ابنه أفضل منه، أعلن عن تخوفات الآباء وكشف نقاط ضعفهم ، استرجع عندما كتب كلمات هذه الأغنية كما اعتاد فى كتابته لمعظم أغانيه جزءا من ذاكرته وذكرياته وتجربته الشخصية ، فصدقه كل من سمع هذه الكلمات.
قدم مكى فى أغنياته ثقافة ودين وأخلاق ومبادئ وعادات طيبة كادت أن تتلاشى ، دون أن يعيش دور الواعظ، عاش كل هذه التفاصيل ، وخلق من تجاربه الشخصية فنا يعبر عن الملايين، تحدث عن الحارة المصرية، وأولاد البلد، وناصية زمان وأسواق القلعة والحمام والجمعة، وعمالة الأطفال الذين تضطرهم الظروف لإعالة أسرهم، وكانت منطقته الشعبية " الطالبية" التى يعتز بها ويعلن انتماءه لها فى الخلفية أو المقدمة.
عبر عن ولاد الحتة واللغة الخاصة بينهم، وكيف كان أخذ الحق حرفة ، غنى للمطواة وحلة المحشى ، ووصف حال الشباب من البطالة والإحباط إلى الإدمان، كما عبر عن هموم وأوجاع الشقيانين ، وتأرجحهم بين اليأس والأمل، غنى للأم المعيلة التى تخلى عنها زوجها فعاشت لأبنائها، وببساطة ودون تعقيدات وتنظير عبر عن علاقة الإنسان بربه فى أغنية"طرقت بابك يالله" ، عندما يصل إلى أقصى درجات اليأس قائلا : " ربك عظيم روحله خطوة هيجيلك خطوتين خلق مفهوم الرحمة واسمه رحمن رحيم".
استطاع مكى أن يفعل كل هذا بقدرة هائلة تجعلك ترى وتشعر وتبكى وتندم وتحلم وتتمسك بالأمل ، وكلمة السر والسحر فى كل ذلك هى الصدق الذى يعيش به مكى كل تجاربه والأدوات التى يمتلكها ويترجمها إلى فن يدخل القلوب وينبه العقول، ويلمس المشاعر والأحاسيس ويلعب على وتر مخزون الذكريات والتجارب.
يمتلك أحمد مكى المولود فى وهران بالجزائر عام 1978 لأب جزائرى وأم مصرية، والذى انتقل مع والدته للإقامة بمنطقة الطالبية بمصر بعد انفصال والديه ـ العديد من المواهب ، التى بدأت مبكرا فهو ممثل ومخرج ومؤلف ومغنى ، حقق العديد من النجاحات بدأت بعد تخرجه من معهد السينما مباشرة ، حيث أخرج عددًا من الأفلام القصيرة من بينها (ياباني أصلي) و (الحاسة السابعة)، وحاز عنها عددا من الجوائز، وتحول فيلمه الحاسة السابعة إلى فيلم سينمائى قام ببطولته أحمد الفيشاوى وأخرجه مكى ، الذى بدأ طريق التمثيل بأدوار صغيرة فى عدد من الأفلام، واشتهر بشخصية "هيثم دبور" التى قدمها في مسلسل "تامر وشوقية " وفيلم مرجان أحمد مرجان مع الفنان عادل إمام ثم فيلم إتش دبور.
وبذكائه الفنى أراد مكى ألا ينحصر فى شخصية واحدة ، فأظهر قدراته على التنوع فى أداء شخصيات عديدة ، فى فيلم طير انت ، ولا تراجع ولا استسلام ، ومسلسل الكبير الذى قام بتأليف أجزائه المتعددة.
أدرك مكى واستوعب حب الشباب لأغانى الراب فأبدع عشرات الأغنيات التى تقدم حكايات بشر من خلال هذه الأغانى التى قام بتأليف وإخراج أغلبها ، وفى مقدمة ألبومه " أصله عربى " تحدث عن أصل الراب وأنه يعود إلى العرب الذين أبدعوا فى اللغة والمبارزات الكلامية والشعر والموسيقى واكتشفوا المقامات الموسيقية والإيقاعات ، ونقلوها مع تجارتهم إلى إفريقيا ، ثم انتقلت إلى أمريكا مع العبيد الأفارقة ، ليظهر فن الراب.
لم يترك مكى مجالا إلا وغنى له وعنه حتى السياسة ، فغنى عن حال العرب وطبيعة العلاقة بين الشعوب العربية حاليا ، وكيف يتحول أى نقاش بين أبنائها حتى وإن كان حول سلحفاة تأكل الخس إلى جدال وسب فى البلدان والأديان.
أراد مكى تقديم أعمال فنية مختلفة ، وأكد أن سوق الفن جعله يذهب في طريق لم يكن يريده منذ البداية ، ولكنه توقف ليفكر جيدا فيما يريد تقديمه ، وأعاد حساباته حتى يستطيع تحقيق طموحاته الفنية ، وأن يقدم ما يحبه، وليس ما يفرضه عليه السوق.
هكذا يقدم مكى ببساطة ودون ضجيج أو غرور فنا يصدقه ويحبه الناس لأنه منهم وإليهم ، فن من لحم ودم ومشاعر وتجارب بشر ، يتحدى الإسفاف والانحطاط ويرسم طريقا يميزه عن غيره من كل أبناء جيله .