اتصل مسؤول فرنسى بصديقه ثروت عكاشة، الملحق العسكرى المصرى فى فرنسا مبكرًا، ليتفق معه على لقاء عاجل فى صباح نفس اليوم «27 أكتوبر- مثل هذا اليوم- 1956»، حسبما يؤكد «عكاشة» فى الجزء الأول من مذكراته.
كان «عكاشة» فى منصبه ملحقا عسكريا فى باريس منذ عام 1954، قبل أن يصبح سفيرا فى روما ثم وزيرا للثقافة عام 1958، وكان اتصال المسؤول الفرنسى به وتحديد موعد للقاء «أمر غير عادى»، بوصف عكاشة، مضيفا: «كان فى مكان قصى، وهو ماجعلنى أدرك خطورة ماسوف أستمع إليه من أنباء»، ويرفض عكاشة الكشف عن اسم هذا الشخص، لكنه يلمح إليه قائلا: «يحتل منصبا حساسا ما أزال أحرص على كتمان اسمه مع أن مصر تدين له بالفضل فى الوقوف على أكثر المعلومات خطرا وأهمية.. وفى الحق أن هذا الصديق نفذ إلى قلبى منذ لقائى الأول به، فتوثقت صلاتنا مع الأيام.. وكنت ألمس على الدوام تعاطفه مع حركات التحرر فى الشمال الأفريقى، وشجبه للبطش الذى تمارسه القوات المسلحة الفرنسية ضد الوطنيين».. يؤكد عكاشة: «مع أنى كنت أسعد بهذا التعاطف، إلا أننى التزمت جانب الحذر فى مبدأ الأمر، وشيئا فشيئا أخذت أعرض بعض المعلومات التى كنت أحصل عليها، وأصارحه بحاجتى إلى التثبت من صدقها، فكان يزيدنى عنها بيانا بكل ماعنده مما جعلنى أثق بما يقول».
يزيد عكاشة فى وصف هذا المسؤول: «كانت ثقافته متنوعة وغزيرة، وكانت رؤيته السياسية ثاقبة إلى آماد بعيدة.. كنا على مشرب واحد فى التذوق الموسيقى والأدبى وكان هذا رباط إضافى فوق روابط الاهتمامات السياسية والإنسانية».. ويؤكد أنه شعر أن هذا المسؤول لديه شىء خطير يريد أن يطلعه عليه، خاصة أن تهديدات بريطانيا وفرنسا لمصر كانت فى أوجها، بسبب قرار عبدالناصر تأميم قناة السويس وإعلانه فى خطابه يوم 26 يوليو 1956 بميدان المنشية بالإسكندرية، وحسب عكاشة فإن «المسؤول»: «كان لديه بالفعل الجديد والخطير، فقد حدثنى أولا عن الاتفاق السرى بين بريطانيا وفرنسا على غزو مصر، وكان من المفروض أن يقع يوم 15 سبتمبر، حيث كانت الخطة تستهدف الهجوم على الإسكندرية، والتمهيد لذلك بتوجيه جملة ضربات مركزة بالطيران على المطارات المصرية، وإنزال قوة من جنود المظلات تسبق عملية الاقتحام للاستيلاء على رأس شاطئ حتى يتم تدفق الجنود والمعدات وباقى قوات الغزو، ودعم عملية الإنزال بمدافع وطائرات الأساطيل البريطانية والفرنسية، على أن تخصص قبرص قاعدة للفرنسيين ومالطة للبريطانيين، غير أن الجانب الفرنسى عاد فاعترض على الإنزال فى الإسكندرية مفضلا بورسعيد، ملوحا بضرورة إقحام إسرائيل فى المعركة لزيادة عدد القوات المهاجمة حتى تصبح 1:3 مما يزيد من فرص النجاح أمامهم، فضلا عن أن إشراك إسرائيل فى الصراع يخلق ذريعة مقبولة للتدخل البريطانى الفرنسى أمام الرأى العام».
كشف المسئوول الفرنسى لعكاشة أن هذه الخطة ألغيت والسبب: «حسب واضعوها أن شيئا منها تسرب إلى مصر، وأن القيادة المصرية أعدت العدة للتصدى لها، واستبدلت بها خطة جديدة حرص على إبلاغى بها فور معرفته بها، كانت على الوجه التالى:
تم اتفاق جديد بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على قيامهم بعدوان منسق على مصر، فتهاجم إسرائيل سيناء لتهيئ الذريعة وتحكم الشرك، وبعد فترة وجيزة تكفى لاستدراج الجيش المصرى إلى سيناء ومحاصرته فيها، توجه بريطانيا وفرنسا إنذارا إلى مصر، تعقبانه بتمهيد جوى مركز يقوم به السلاح الجوى البريطانى والفرنسى لتدمير المطارات الحربية والتحصينات، والأهداف الحيوية، والحشود والقواعد العسكرية والدفاعات الساحلية، ويتلوه إنزال قوات الاقتحام ببورسعيد للاستيلاء على الهدف الرئيسى وهو قناة السويس، وأضاف أن الخطة تم التصديق عليها نهائيا كى تنفذ خلال الأيام القليلة التالية بموعد أقصاه الرابع من نوفمبر حتى تنتهى العملية قبل الانتخابات الأمريكية فى 6 نوفمبر، وأن كل الاستعدادات اكتملت للتنفيذ».
يشير عكاشة إلى أن فرنسا شهدت اجتماعات مريبة وكان يعلم بها بطرقه الخاصة، وكانت بين مسؤولين فرنسيين وإسرائيليين منذ أوائل سبتمبر 1956 يشتم منها تدابير موجهة ضد مصر، كما انعقد اجتماعا بين رئيس الوزراء الفرنسى جى موليه، ورئيس الوزراء الإسرائيلى بن جوريون، وسلوين لويد وزير الخارجية البريطانى يوم 22 أكتوبر فى «سيفر» لتوقيع اتفاقية العدوان الثلاثى على مصر، وتبدأه إسرائيل يوم 29 أكتوبر 1956.
يؤكد عكاشة: «هكذا أتاح لى الله أن تساق إلى وأنا فى عقر دارى تلك المعلومات الخطيرة، ولم يكد ينتهى لقائى معه حتى خلوت إلى نفسى، وأخذت أفكر فى أضمن طريق وأسرعه لإبلاغ الرئيس عبدالناصر بخطة العدوان»، فماذا فعل؟