فكر ثروت عكاشة الملحق العسكرى المصرى بفرنسا فى أسلوب آمن، يتبعه لإبلاغ الرئيس جمال عبدالناصر بالمعلومات السرية المهمة التى عرفها عن خطة العدوان الثلاثى على مصر «بريطانيا، فرنسا، إسرائيل»، وأبلغه بها مسؤول فرنسى سرا.. «راجع- ذات يوم 27 أكتوبر 2018».
يؤكد عكاشة فى الجزء الأول من مذكراته: «فكرت فى أن أسارع بإبلاغ المخابرات الحربية بهذه الخطة ببرقية شفرية، غير أن تحركاتى كانت تحت رقابة فرنسية مشددة، فخشيت بعد أن تحل السلطات الفرنسية رموز الشفرة، وكان هذا أمرا ميسورا وقتذاك أن تستدل على مصدر هذه المعلومات، ولن تتورع عندها عن اغتياله أو محاكمته والدخول فى تعقيدات كنا فى غنى عنها، فعدلت عن هذه الوسيلة، وكذلك استبعدت فكرة إرسالها بالحقيبة الدبلوماسية تجنبا للتفتيش الذى كنت أعلم أن أجهزة الأمن الفرنسية الواقفة لنا بالمرصاد تمارسه بضراوة، فضلا عن خشيتى من أن يطول بها الوقت قبل أن تصل فى موعد مناسب».
عقد «عكاشة» العزم على إرسالها مع رسول خاص يكون بعيدا عن شبهات سلطات الأمن الفرنسية، ويثق فى تنفيذه لتعليماته بدقة وأمانة، فاختار، عبدالرحمن صادق المحلق الصحفى بالسفارة، يؤكد عكاشة: «كانت لى به صلات وطيدة تقوم على الثقة والتعاون الوثيق، وكذا كانت صلة عبدالناصر به، وكنت أضمن فيه سعة الحيلة، فدعوته إلى مكتبى على عجل، وأحطته علما بخطورة المهمة».
رحب «صادق»، ورأى عكاشة، أن تكون رسالته إلى عبدالناصر شفوية تجنبا لاحتمال أن تقع فى أيدى الأعداء، ويكشف: «اصطحبت «صادق» إلى منزلى حيث سجلت المعلومات الواجب إبلاغها كتابة، وطلبت منه استذكارها عن ظهر قلب، مبينا أن مستقبل مصر يتوقف على كفاءة ذاكرته، وكلما أعادها على طلبت منه مزيدا من الاستذكار حتى إذا اطمأننت تماما إلى أنها رسخت فى ذهنه أحرقت أوراقى، وطلبت إليه إبلاغ الرسالة إلى عبدالناصر لا لشخص سواه، ورأيت أيضا أن أحمله رسالة مكتوبة بخط يدى تتضمن تفاصيل لا تمثل الحقيقة لخطة عدوان نسجت خيوطها مما انتهى إلينا من خطط الهجوم المتعددة الملغاة على مصر، والتى كانت معدة للتنفيذ فى الأسبوع الثالث من سبتمبر، وذلك بهدف التعمية إذا حدث ووقعت فى أيدى رجال الأمن الفرنسيين الذين كانوا يطوقون السفارة ورجالها بنطاق المراقبة الدقيقة، وهو كفيل بإبعاد أذهانهم عن أننا ظفرنا بمعلومات عن الخطة الحقيقية»، كما تضمنت الرسالة «وصف المناخ السياسى الذى تعيشه فرنسا، وما كان من تعبئة النفوس ضد مصر وتهيئتها للحرب».
ينشر «عكاشة» فى مذكراته صورة من رسالته التى تتضمن الخطة غير الحقيقية للعدوان، وتبدأ بتحيات وسلامات وسؤال عن صحة «أخى السيد الرئيس» ثم يقول: «قال مصدرى: ثمة اتفاق حديث بين إنجلترا وفرنسا تنازلت فيه الأخيرة عن كافة نفوذها فى منطقة الشرق الأوسط لإنجلترا، على أن تعضد الأخيرة فرنسا فى استعادة نفوذها القديم بالشمال الأفريقى، أما ما دعا هاتين الدولتين الاستعماريتين إلى هذا الاتفاق فهو ضمان انشغال أمريكا فى انتخاباتها، وانشغال روسيا فى متاعبها مع الدول الدائرة فى فلكها، مما يتيح لفرنسا وإنجلترا انتهاز الفرصة للعمل منفردتين دون تدخل من أمريكا وروسيا.. وستبدأ العملية بمشكلات تخلقها إنجلترا فى الأردن تستتبع أن تتدخل فيها الجيوش العراقية مستفزة مصر وسوريا، فإذا تدخلت الأخيرتان غزت إنجلترا الأردن ومصر، وفى نفس هذه اللحظة تعزز القوات الفرنسية الموجودة بتونس ومراكش مراكزها ووجودها بصورة فعالة، وبعد التخلص من الحكام والعناصر المناهضة للاستعمار فى هذه البلاد تنهض عراق نورى السعيد مطالبة الدولتين الفرنسية والبريطانية بسحب جيوشها من كافة الدول العربية، حتى تكسبها بريطانيا صفة الزعامة، ومن هنا كانت العراق هى حجر الزاوية فى المشروع، فهى آخر معقل للاستعمار فى المشرق العربى، ومنها يريد الاستعمار الوثوب من جديد، وبعد ذلك تتزعم العراق حركة الصلح مع إسرائيل».
يكشف «عكاشة»، أنه إمعانا فى الحرص لاستكمال المهمة بنجاح، تعمد أن يغادر «صادق» فرنسا على أنه فى طريقه إلى بروكسل لا إلى مصر، ويذكر: «كلفت سكرتيرتى الفرنسية بحجز تذكرة سفر له إلى بروكسل ذهابا وإيابا، على أن يغادر باريس صباح الأحد 28 أكتوبر «مثل هذا اليوم 1956»، «ويعود- نظريا- فى اليوم نفسه فى الثامنة مساء».. يضيف: «لتغطية هذه الرحلة العاجلة والمفاجئة، كلفت مساعدى الصاغ عيسى سراج الدين بإعداد حقيبة تحتوى على مصابيح رادار لتشغيل أجهزة المدفعية المضادة للطائرات، كانت القاهرة فى مسيس الحاجة إليها ليحملها معه، وكأن رحلته إلى بروكسل هى لتوصيل الحقيبة والعودة إلى باريس».
كيف مضت الرحلة حتى وصل عبدالرحمن صادق إلى القاهرة فى اليوم التالى «29 أكتوبر 1956؟».