عاد فتحى الديب، ضابط المخابرات المصرية ومسؤول«الشؤون العربية»برئاسة الجمهورية إلى منزله، وبدأ يتابع نشرات الأخبار فى إذاعات العالم بحثًا عن خبر ينتظره بقلق عن انطلاق الثورة الجزائرية ببدء كفاحها المسلح ضد الاحتلال الفرنسى.. «راجع.. ذات يوم 30 أكتوبر 1954».
يؤكد الديب: «بعد طول انتظار تسرب أول صدى يوم 1 نوفمبر «مثل هذا اليوم» 1954، فى صورة خبر أنه حدث تمرد جزائرى.. جاء الخبر بمثابة الشرارة التى أشعلت كل مشاعرى بالحرارة والحماس والسعادة، وملأت قلبى بالفرح الذى فاق كل تصور.. وبادرت على الفور بإبلاغ الرئيس عبدالناصر، وزكريا محيى الدين «رئيس المخابرات»، يتذكر «الديب»، أنه لمس رنة الفرحة فى نبرات صوتهما.. ويضيف: «توالت الأخبار تدريجيا، بعد رفع الحظر الذى فرضته القيادة الفرنسية بالجزائر طيلة نهار يوم أول نوفمبر».
يضيف «الديب»: «وصلتنا المعلومات الأولية لتؤكد أن الخطة كانت مفاجأة لم يتوقعها الفرنسيون، والهجمات التى قام المناضلون الجزائريون بها، شملت معظم أنحاء البلاد طبقًا للخطة المتفق عليها، وأن معظم الهجمات وجهت إلى مراكز البوليس، وقوات الجيش المنعزلة والتى تم الاستيلاء على كل مابها من أسلحة وذخائر، وأنه تم تدمير الكثير من وسائل المواصلات كالسكك الحديدية والتليفونات ومحطات توليد الكهرباء وبعض الكبارى التى شلت حركة القوات الفرنسية، وجمدت نشاطها 24 ساعة كاملة، وألغى وزير الداخلية الفرنسى المسؤول إجازته ليعود إلى باريس، ويأمر بإرسال ثلاث كتائب من المظلات، وفصائل قوات حرس الأمن الجمهورى لإخماد حركة الكفاح، كما قدرت السلطات الفرنسية الخسائر الأولية بما يوازى 200 مليون فرنك فرنسى، وإن كانت الحقائق تشير إلى أنها فاقت هذا بكثير».
أعطى «الديب» الضوء للمذيع أحمد سعيد لبدء«صوت العرب»فى المساندة.. يتذكر «سعيد» فى مذكراته «غير المنشورة»، أنه كان خلف ميكرفون الإذاعة يقرأ تعليقًا موجهًا لشعب الجزائر، وإذا به يفاجأ بالزميلة الأولى فى صوت العرب نادية توفيق تلوح من خلف النافذة الزجاجية الضغيرة فى باب الاستوديو بورق شبه ملفوف، وعلى وجهها فرح الدنيا كلها وهى تصنع بأصبعى يدها علامة النصر.يضيف: «وجدت نفسى رغم أن التعليق لم يكن تجاوز منتصفه أرتجل عبارات قليلة منهيًا التعليق فى أقل من دقيقة، وأغلقت الميكروفون فدخلت نادية مسرعة وهى تهتف: «الجزائر ثارت.. ثارت».. يضيف سعيد: «يحضر فتحى الديب من منزله ليمضى معى ونادية توفيق ساعات الإرسال المتبقية لصوت العرب فى تلك الليلة، وسط أجواء فرحة غمرتنا جميعًا، خاصة عندما تبين للزملاء أن مبنى إذاعتهم شهدت إحدى حجراته أول وآخر مرحلة من مراحل التفكير والتدبير لثورة الشعب الشقيق فى الجزائر، وفق ما أقسم عليه ونظم له الثوار الأوائل من القادة الشبان «بن بيلا ورفاقه».
يكشف«سعيد»أن الديب نقل إليه، أن الرئيس عبدالناصر يفوضه فى عمل الدعم الإعلامى الكامل من «صوت العرب» لمساندة الثورة الوليدة التى لم يتوقعها أحد، ويؤكد: «انتابتنى نشوة عارمة وأنا أفكر فى ممارسة أسلوب إذاعى مثير لانتباه المتلقين، فأطلب من زملائى قطع البرنامج المذاع وقتها، وقيام المذيع المنوب بالتنبيه إلى أننا فى استوديو صوت العرب نعتذر عن استكمال البرنامج المذكور، انتظارًا لوصول أنباء مهمة، ويكرر المذيع المنوب التنبيه المثير حتى وصلت الاستوديو وفى يدى بيان إعلان الثورة، غير أننى أفاجأ بمهندس الوردية يدعونى سريعًا إلى غرفة الكنترول لمكالمة تليفونية عاجلة من مكتب جمال عبدالناصر، وإذا أمسك بالسماعة أفاجأ بمدير مكتبه «على صبرى» يعلمنى بأن الرئيس سيكلمنى، ويجيئنى صوته قائلا بنبرة المبتهج: «يا أحمد خليك حريص فى إذاعة أخبار الأعمال الثورية المنسوبة إلى المصادر الأجنبية، وخاصة الفرنسية، حتى تصل من داخل الجزائر تفاصيل العمليات، فيعاد بثها ولو بعد أيام على أنها بلاغات التنظيم الثورى فى الداخل».
أسرع «سعيد» إلى الاستوديو.. يكشف تأثير المكالمة عليه: «ازدادت قناعة بعبدالناصر زعيما وقائدا، لأبدأ فى إلقاء البيان العام بإعلان الثورة فى الجزائر بأداء حماسى يغمره فخر واعتزاز لم أعرف لهما مثيلا فى كل ما مر بى إعلاميًا إلا فى 23 فبراير 1958 يوم وصول عبدالناصر إلى دمشق أثر استفتاء شعبى فى مصر وسوريا على قيام«الجمهورية العربية المتحدة»، ويوم 19 فبراير 1962 عندما أقر ممثل حكومة الرئيس الفرنسى ديجول لممثلى «جبهة التحرير الوطنى» بحق الجزائر فى الاستقلال ووحدة التراب الجزائرى».
يضيف «سعيد»: «إذا كان لصوت العرب شرف إعلان أحداث أول نوفمبر سنة 1954 ثورة نضال، بصوت إعلامى مصرى هو أحمد سعيد، فلها أيضًا مواكبة الثورة ليل نهار ثمانية أعوام.. وكان شرف إعلان «الجزائر دولة حرة كاملة السيادة» بصوت إعلامى مصرى هو مذيع صوت العرب «رشاد أدهم»، فهو أول مصرى يدخل العاصمة المحررة داخل مصفحات جيش التحرير بقيادة هوارى بومدين «الرئيس فيما بعد».