كانت الساعة العاشرة إلا خمس دقائق من صباح يوم 2 نوفمبر «مثل هذا اليوم 1965»، حينما وصل الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام إلى باب سجن الاستئناف بالقاهرة، ومعه الصحفى «محمود عبدالعزيز حسين»، رئيس قسم الحوادث بالأهرام.
كان «عبدالعزيز» يحمل فى يده إذنا لهيكل بزيارة الكاتب الصحفى مصطفى أمين المقبوض عليه بتهمة التجسس لصالح أمريكا يوم 21 يوليو 1965، ويكشف هيكل فى كتابه «بين الصحافة والسياسة» أسرار هذه الزيارة، وظروفها، مشيرا إلى أن فكرتها ولدت فى لقاء جمعه فى الأهرام بالصحفى اللبنانى سعيد فريحة صاحب «دار الصياد اللبنانية» و«محمد أحمد المحجوب» رئيس وزراء السودان أكثر من مرة، وكان تربطهما علاقة صداقة عميقة بمصطفى أمين وهيكل، بالإضافة إلى علاقتهما الطبية بجمال عبدالناصر.
يؤكد هيكل، أنه انتهز فرصة لقاء له مع عبدالناصر، ونقل له ما دار فى لقائه مع فريحة والمحجوب حول اقتراحهم بهذه الزيارة، ووفقا لهيكل فإن عبدالناصر قال له: «اتصل بوزير الداخلية واطلب منه تصريحا»..واستطرد: «قل لابنته أن تتقدم بطلب إذن زيارة إذا أرادت».. ومضت الإجراءات لتبدأ الزيارة بلقاء بين «أمين» و«هيكل» فى غرفة مأمور السجن.
يتذكر هيكل: «أقبل فاتحا ذراعيه يعانقنى وفتحت ذراعى، وقبلنى على الخدين وقبلته.. وفى لحظة واحدة ذابت أشياء كثيرة.. وتبادلنا أسئلة بلهاء عن الصحة والأحوال وعن أخبار على أمين «شقيق مصطفى»، وقلت له ما عندى بسرعة، كما طمأنته على ابنتيه وأنهما ستجيئان لزيارته»، يضيف هيكل: «أحسست أن سبب البلاهة البادية فى حديثنا يرجع إلى إحساس بوجود رقيب معنا.. والتفت إلى مأمور السجن أسأله: «هل أستطيع أن أنفرد بالأستاذ مصطفى أمين؟.. وقال الرجل بأدب، اللوائح لا تسمح، لكنه تقديرا للظروف سيقف على باب غرفة مكتبه ليوفر لنا أقصى قدر ممكن من الخصوصية».
سأله هيكل عن معاملته أثناء التحقيق: «هل وقع عليك ضغط.. إكراه أو قسر؟»، فرد بصوت خفيض: «لقد عزلت عن الدنيا أربعين يوما لم أقرأ فيها صحيفة، ولم أعرف ماذا كان يجرى؟.. قال هيكل: «طبيعى أن تكون هذه العزلة أثناء التحقيق.. ما أسأل عنه هو: هل كان هناك شىء آخر؟..هز رأسه نفيا ثم أجاب بالنفى، ثم سأل: «كتبت خطابا شخصيا لسيادة الرئيس فهل وصله؟. رد هيكل: «نعم وقرأته.. أعطانى الرئيس نسخة منه».. يضيف هيكل: «فجأة أفلت منى زمام السيطرة على مشاعرى، فقلت له: مصطفى.. لماذا؟.. كان صوتى جريحا بمشاعر الأسى.. ولاحت لى فى عينيه دمعة تتأرجح، وأصررت على سؤالى أكرره: «لماذا؟. لماذا؟..وسألنى: «هيكل.. هل تعتقد أننى جاسوس؟. قلت: «إننى لا أتصور ذلك..لكن هناك أسئلة كثيرة لابد لها من رد»، واندفع يتكلم: «إننى خائف من الشيوعيين.. خائف منهم على سيادة الرئيس.. أرجوك أن تحذره، إنهم فى كل مكان، فى الصحافة وفى الجيش، يرتبون أنفسهم فى الجيش..أنت لا تعرف ماذ يفعلون، إننى كنت أريد إخراج ما لدى فى مصر من «فلوس» إلى الخارج، لكى أخرج قبل أن يستولوا على السلطة».
يؤكد هيكل: «وجدت نفسى مضطرا إلى مقاطعته: «مصطفى.. أين هم هؤلاء الشيوعيون؟ وعلى فرض أنهم على النحو الذى تصفه، فهل هذا يبرر أن تتصرف على هذا النحو الذى تصرفت به؟.. قال: ربما أكون أخطأت».. وسالت دمعته المتأرجحة، وأعطيته منديلى، ووجدتنى أمسك بيده وتمالك نفسه، وعاد يسألنى عما نشر فى مصر وفى بيروت عن قضيته، وأجبته.. وعاد يسألنى: «ماذا سيفعل سيادة الرئيس؟. قلت: لم تعد المسألة الآن مسألة ماذا سيفعل سيادة الرئيس، القضية الآن فى الطريق إلى محكمة.. ولا أخفى عليك أننى أدعو الله أن تكون المحاكمة سرية، لأن كل ما فى الأوراق والأشرطة والتقارير مسىء للمهنة ولكل الأطراف.. ومع ذلك فلا أظن أن الصورة ستتتضح إلا بعد انتهاء المحاكمة».
يضيف هيكل أن مصطفى أمين عاد إلى حكاية الشيوعية والشيوعيين، ولم يشأ أن يجادله لإحساسه أنه يقف عند خط دفاعه الأخير.. ويؤكد: «قلت له: على فكرة كان سعيد فريحة ومحمد أحمد محجوب عندى قبل أيام وكلاهما يبعث لك سلامة.. وهناك ربطة أدوية وفيتامينات أرسلها إلينا سعيد من بيروت». سألنى: «هل قابلا سيادة الرئيس؟. رددت بالنفى وشرحت له ما تحدثنا فيه وقلت: «نحن نحاول إلى أقصى حد نراه».سألنى: كم من الوقت أقدر أن تطول المسألة؟. قلت: كيف لى أو لغيرى أن يعرف؟. قال: ألم يكن كافيا أننى اعترفت بأخطائى؟. واستطرد: لدىَّ اقتراح، بدل المحكمة والمحاكمة، لماذا لا يعتقلنى سيادة الرئيس بقرار منه فترة تأديبية؟.. أو لماذا لا يحكم هو على بالنفى من مصر؟.. قلت: مصطفى.. دعنا نواجه الواقع كما هو.. ولا فائدة الآن من التعلق بأوهام»، وأطرق برأسه ساكنا.. ورحت أحدثه عن بناته، ثم انتقلت إلى بعض الشؤون العامة المنشورة فى الصحف، وتصورت أنه قد يخفف عنه أن يشعر بصلة مع ما يجرى خارج السجن.. وسألنى، إذا كنت أستطيع أن أرتب له إرسال صحف ومجلات القاهرة وبيروت له، وجهاز راديو صغير.. ووعدته».