من يوم ما وعيت على القاهرة وحططت الرحال، وأسمع فى الجوار حديث نقل مستشفى الأمراض العقلية والنفسية، مستشفى المجانين سابقاً، السراية الصفراء فى زمن مضى.
الطمع فى أرض مستشفى العباسية «68 فداناً» مسلسل مستمر، وفى كل مرة يخطط المُخطِط ويفشل المخطط، ولكن ليس فى كل مرة تسلم الجرة وتفلت أرض المستشفى العتيق من بين أسنان سماسرة الأراضى، هناك فى الدغل من يتلمظون لنهش قطعة الأرض الثمينة التى تحتل «سرة العباسية».
أحدهم تجاهل حديث البطاطس، وأخذ يفكر ويفكر ويفكر خارج الصندوق، واهتدى إلى فكرة نميسة تدر مليارات على الحكومة، فألبسها ثياباً ظريفة وساقها إلى الناس بحلو الكلام، لعل وعسى تصيب هذه المرة.
حذار يا شطار، النائب محمد الحسينى، عضو مجلس النواب، سيتقدم باقتراح برغبة لنقل مستشفى الأمراض النفسية والعصبية «العباسية» إلى خارج موقعها الحالى بشارع صلاح سالم لمنطقة صحراوية تتسم بالهدوء، مربط الفرس الهدوء، خد بالك من السبب النفسانى الذى ينم عن ثقافة طبية فى موسوعة الأمراض العقلية، النائب قصده خير، ولا شك مطلقاً، وحسن النية باين من اقتراحه، ورغبته خدمية لوجه الله تعالى ومن بعده البشر العقلاء منهم والمجانين طبعاً.
هكذا يكون النائب قلبه واجف على المجانين، يخشى عليهم من الإزعاج الذى يؤرق عقلاء العباسية، يطلب لهم الهدوء، ويقترح نقلهم إلى الصحراء، منتهى الهدوء، لن يسمعوا فيها إلا التَّهَرْهُر والهزيز والعزيف والخواة والهبوب والفَوْخ والخَرِير.. وكلها من أصوات الرياح وسف الرمال فى وجوههم، ولم لا وأصوات الرياح موصوفة فى المراجع النفسية كآخر الدواء.
ربنا كرمنا بنواب طيبين فعلاً، وذوى لماحية، ورؤية استثمارية مستقبلية، تحس أن مجلس النواب قلب على مجلس استثمارى، ونوابه متفرغون لبحث أوجه الاستثمار على النواصى، ومساعدة الحكومة على الكسب الحلال، نواب ولاد حلال، لا ينام النائب منهم ولا يستكين على جنبه ليلاً إلا بعد الوقوف على مشروع استثمارى يهديه إلى الحكومة صباحاً.
نائب بولاق محمد الحسينى صاحب الشعار الفصيح «الحكومة عايزة حكومة» هبطت عليه الفكرة وهو قائم يفكر، وقد نال منه التعب، وثقل دماغه من كثرة التفكير فى مستقبل البلاد والعباد، تعمل إيه يا حسينى، تعمل إيه يا حسينى، وإذ فط ونط من غفوته على فكرة سقطت فى حجر بنطاله، كما سقطت التفاحة على رأس نيوتن، مستشفى المجانين، كانت فين رايحة عن بالى، لماذا يسكن المجانين سرة العباسية، وصحراء العباسية على مرمى حجر، العاقل أبقى من المجنون، فليرحل المجانين غير مأسوف عليهم، وليسكنها العقلاء، لما المجانين يسكنوا الكمبوند، العقلاء يسكنوا فين؟
حتى مستشفى الأمراض النفسية والعصبية، مستشفى المجانين لم تغب عن رؤيتهم الاستثمارية، ويزينون أطماعهم فى أرض المستشفى بالحديث المرسل عن الاستغلال الأمثل للموارد والأصول الثابتة، عجيب والله أمرهم، الفكر الاستثمارى يسيطر ويتوغل، حتى فدانين الأرض الذى طلع بهم المجانين من الدنيا يفكرون فى سلبهم إياها، ويقذفون بهم إلى الصحراء، كما قذفوا بهم قبلا خارج الدنيا.
حديث الزحام والمرور والإزعاج الذى يؤرق المجانين ويؤخر شفاءهم حديث مخاتل، حديث الإفك، لو رزقك الله بمن امتحنه الله فى عقله، هل يحتمل قلبك وحياتك أن يلقى فى الصحراء، هم فى قلب العباسية الآن، ولا أحد يرق قلبه ليزورهم إلا الكرماء الطيبون، ونفر من الممتحنين فى ذويهم، حتى هؤلاء يشق عليهم الزيارة فى الصحراء، لن أتمنى للنائب الحسينى سكنى الصحراء، ولكن أتمنى عليه يسيب المجانين فى حالهم ويقلع عن رغباته الشريرة.