طلب عالم الطبيعيات الأكبر وصاحب «نظرية النسبية» آلبرت آينشتاين، من الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل الجلوس على مكتبه لينسخ أوراقا مهمة، ليقدمها إلى محمد نجيب، وجمال عبدالناصر، وذلك فى لقائهما يوم 12 ديسمبر عام 1952 فى منزل «آينشتاين» بجامعة «بوستن» الأمريكية، حسبما يؤكد هيكل فى كتابه «زيارة جديدة للتاريخ»، فما قصة هذه الأوراق؟ وماذا كان فيها؟
كان «آينشتاين» يهوديا ألمانيا، ولد عام 1879، وهاجر لأمريكا عام 1933، ووفقا لهيكل: «أعطى الدنيا بنظريته النسبية مفتاحا جديدا لفهم الكون، وفتح الباب لعصر جديد هو العصر النووى».. يضيف: «هو أعظم الأحياء بتعبير الدكتور محمود عزمى» مندوب مصر الدائم فى الأمم المتحدة».لكن آينشتاين هو: «أسعدنى قيام دولة يهودية فى فلسطين، وأحزنتنى المأساة التى تعرض لها العرب فى فلسطين».
كان اللقاء بعد شهور من ثورة 23 يوليو 1952، فسأل عن الضباط الذين يحكمون مصر، وحدثه هيكل عن «نجيب» وقائد الثورة الحقيقى «كولونيل شاب اسمه جمال عبدالناصر»، كما كان اللقاء بعد أربع سنوات من قيام إسرائيل «15 مايو 1948»، وبعد أسابيع من وفاة حاييم وايزمان أول رئيس لها «27 نوفمبر 1874 - 9 نوفمبر 1952»، وحسب قوله لهيكل: «فوجئت عندما وجدتهم يعرضون على رئاسة الدولة فى إسرائيل بعد وايزمان، أعرف طبعا أنهم يريدون اسمى وليس جسمى».. لكننى اعتذرت لهم بأسف حقيقى.
كان الاعتذار يوم «19 نوفمبر- مثل هذا اليوم- عام 1952»، وأطلع هيكل على البرقيات المتبادلة فى هذا الشأن، لكن بعد أن سأله: «هل تستطيع أن تحمل رسالة منى إلى «نجيب وعبدالناصر.. لدى ثلاثة أسئلة محددة.. هل هما مستعدان للسلام مع إسرائيل؟.. وإذا كان الرد بالإيجاب فما هى الشروط الواجبة أو الممكنة على الطرفين؟ ثم ماهو الأسلوب الذى يقترحانه لبحث القضية مباشرة بينهما أو عن طريق أى جهة دولية فى البداية».. يؤكد هيكل، أن آينشتاين أحس بحيرته، فقال له: «إذا كنت توافق على حمل هذه الرسالة فأنا لا أمانع فى أن تنقل صورا من هذه الأوراق ليعرفوا فى القاهرة أننى لا أقترح من فراغ».
كانت الورقة الأولى، برقية من «آباإيبان» سفير إسرائيل فى واشنطن..ووزير الخارجية فيما بعد، وتنص: «البروفيسور أينشتاين: إن حكومة إسرائيل طلبت إلى أن أتعرف على رد فعلكم إزاء مسألة شديدة الأهمية وعاجلة، وسوف أكون ممتنا لكم إذا استطعتم استقبال نائبى الوزير المفوض «دافيد جويثين» فى برنستون فى أى موعد تحددونه غدا الثلاثاء، وبعدها فإننى أرغب فى زيارتكم بنفسى يوم الأربعاء لكى أحصل على ردكم، وأكون شاكرا إذا أبرقتم إلى بموافقتكم.. مع كامل الاحترام».. يؤكد آينشتاين أنه اتصل على الفور بآباإيبان تليفونيا، وسأله فأجابه بما لديه، واعتذر فى لحظتها، لكن آباإيبان رجاه أن يستقبل نائبه، وحضر ومعه خطابا بعرض رسمى من إسرائيل ونصه:
«حامل هذا الخطاب هو المستر «دافيد جويثين» من القدس، هو الآن يخدم هنا كوزير مفوض لسفارة إسرائيل، وسينقل إليكم سؤالا من رئيس الوزراء «دافيد بن جوريون»، عما إذا كنتم على استعداد لقبول رئاسة الدولة فى إسرائيل إذا عرض ترشيحكم على الكنيست ولقى موافقته، إذ ذلك يتطلب موافقتكم على حمل الجنسية الإسرائيلية.. إن رئيس الوزراء يؤكد لكم أن قبولكم، لن يؤدى إلى تعويق حريتكم فى مواصلة عملكم العلمى العظيم، وبالعكس فإن الحكومة والشعب فى إسرائيل سيبذلان كل جهد لتمكينكم من ذلك إدراكا منهم للأهمية القصوى لهذا العمل..إننى أفهم دواعى التردد التى أعربتم عنها حيث تحدثنا معا بالتليفون هذا المساء، ولكنى أريد أن أؤكد لكم من ناحية أخرى أنه مهما كان ردكم النهائى على هذا العرض، فإن مجرد التفكير فيه يحمل فى طياته أعمق احترام الشعب اليهودى لواحد من أعظم أبنائه.. إن إسرائيل دولة صغيرة برقعتها، لكنها ليست صغيرة بما تمثله من معان وتقاليد روحية وفكرية فى زمننا الحديث.. إن رئيسنا الأول «حاييم ويزمان» كما تعرف علمنا، كما تعلمنا منك أنت أيضا أن نرى أقدارنا فى مثل هذه المعانى الكبيرة».
رد «آينشتاين»: «عزيزى السفير.. تأثرت إلى أبعد مدى من عرض حكومة إسرائيل، وفى نفس الوقت فإنى حزين إلى درجة الشعور بالعار لأنى لا أستطيع قبوله.. إننى تعاملت طول حياتى مع أشياء موضوعية، وإنى لأفتقر إلى أى استعداد طبيعى للتعامل كما ينبغى مع الناس ومع المهام الرسمية، ولهذا لا أعتقد بصلاحيتى لهذا المنصب الكبير، يضاف إلى ذلك أن عمرى لا يسمح لى ببقية قوة أعطيها لما تعرضونه على.. إننى حزين لأن أتخذ هذا القرار لأن علاقاتى بالشعب اليهودى مستمرة، كما أننى أتفهم الظروف الحرجة التى تحيط بدولة إسرائيل فى العالم، خصوصا وأننا فقدنا الرجل الذى استطاع أن يقود شعبه أمام كل العقبات والمخاطر، وأخيرا فإننى آمل من أعماق قلبى أن تجدوا خلفا له يملك الخبرة والمزايا الشخصية التى تمكنه من قبول المسؤولية الهائلة الملقاة عليه».