يظل الإنسان الأول لغزا لا حل له، نظريات كثيرة وفرضيات عديدة دارت بحثا عن أصله لكن أحدا لم يتوصل للحل الأكيد لأسلافنا القدامى، ومن ذلك ما يطرحه كتاب "ألغاز تاريخية محيرة" لـ بول أرون، والذى ترجمته شيماء طه الريدى وراجعته إيمان عبد الغني نجم وصدر عن مؤسسة هنداوي، وفيه موضوع عن السؤال: هل كان أسلافنا من سلالة النياندرتال؟
يقول المؤلف في أحد أيام شهر أغسطس عام 1856 في وادي النياندرتال في شمال غرب ألمانيا اكتشف عامل في محجر جيرى عظام دب كهفي حسب ظنه فوضعها جانبا ليريها ليوهان فولروت وهو مدرس محلي ومؤرخ طبيعي متحمس .
وأدرك فولروت فى الحال أنه شيء أهم بكثير من أن يكون عظام دب، فقد كان الرأس في نفس حجم رأس الإنسان تقريبا ولكن كان شكله مختلفا، إذ كانت الجبهة قصيرة إلى جانب وجود نتوءات عظمية فوق العينين وانف كبير بارز وأسنان أمامية كبيرة وانتفاخ بارز من الخلف، ومن واقع العظام التي اكتشفت لا بد أن الجسم كان يشبه جسم الإنسان أيضا وإن كان أقصر وأكثر امتلاء وأكثر قوة بكثير من أي إنسان عادي، وأدرك فولروت أن ما أضفى على هذه العظام مزيدا من الأهمية أنها قد وجدت وسط رواسب جيولوجية من عصور سحيقة .
اتصل المدرس بهيرمان شافلهاوزن، أستاذ التشريح بجامعة بون القريبة والذي أدرك هو الآخر أن العظام غريبة واستثنائية ووصفها لاحقا بأنها تكوين طبيعي لم يعرف بوجوده حتى هذه اللحظة، وكان شافلهاوزن يعتقد بالفعل أن ما اكتشفه العامل كان نوعا جديدا أو بالأحرى بالغ القدم إلى أقصى الحدود من البشر، وهو نوع اصطلح على تسميته بعد ذلك بإنسان نياندرتال، بل إن شافلهاوزن ربما يكون قد ظن أيضا أن النياندرتال كانوا أسلافا قدماء للإنسان الحديث.
وفي نهاية القرن التاسع عشر انتشرت الداروينية في معظم الدوائر العلمية فألقى بعض العلماء مثل جابرييل دى مورتييه في فرنسا نظرة أخرى على العظام وذهبوا إلى ان الإنسان الحديث تطور من النياندرتال وساهم اكتشاف المزيد من بقايا النياندرتال في فرنسا وبلجيكا وألمانيا في تدعيم حجتهم، كان تاريخ هذه الحفريات يعود إلى ما بين مائة وعشرة ألف سنة إلى خمس وثلاثين ألف سنة مضت.
لكن غالبية العلماء بقيادة فرنسي آخر يدعى مارسيلين بول، ظلوا رافضين بشكل متعنت للنياندرتال كأسلاف للبشر، وسلم "بول" بأن الهياكل العظمية ربما كانت قديمة، ولكنها لا تمت بصلة إلى الإنسان وذهب إلى أن هذه النياندرتال ذا الركبة المنحنية والهنق القصير والعمود الفقري المقوس، هو أقرب إلى القردة منه إلى الإنسان، وأشار إلى أنه إذا كان للإنسان الحديث أية صلة به فقد تقتصر فقط على أنه ربما يكون أسلافنا البشر الحقيقيون أيا ما كانوا قد محوا هذا النوع المتهور .
ويعتقد أن أصحاب "مارسيلين بول" قد واصلوا تعنتهم ضد النياندرتال تعصبا لاكتشاف آخر هو إنسان بلتداون الذي اكتشف عام 1912 ولم يحظ بكثير من الشهرة، حيث وجد صائد حفريات هاو يدعى تشارلز داوسون عظام البلتداوان في حديقة عامة تحمل هذا الاسم في ساسيكس بإنجلترا وكانت حادثة مثيرة، فعلى عكس جمجمة النياندرتال بدت جمجمة البلتداون على معظم الأصعدة كجمجمة إنسان حديث، الفك فقط كان أشبه بفك القرد.
لكن المفاجأة ظهرت في أن البلتداون كان خدعة فقط، حيث قام أحد الأشخاص ربما "داوسون" بدمج أجزاء من جمجمة إنسان حديث مع فك إنسان الغاب ثم دهنها بشيء يغير لونها لتبدو أقدم، أما الأسنان فقد تم بردها لتضليل الباحثين حتى عام 1953 فلم يكن العلماء قد فكروا بعد في فحص الأسنان تحت ميكروسكوب، وهي المرحلة التي ظهرت فيها آثار البرد واضحة بشكل تام، وحينئد تحول الزخم العلمي ليساند أن سلالة النياندرتال هم أسلاف البشر وبدلا من التأكيد على مدى اختلافهم عنا بدأ العلماء فى التركيز على أوجه التشابه .