وقف المتهمون الثلاثة أمام محكمة جنح السيدة زينب وهم: صاحب المطبعة الشيخ محمد الخيامى، وأحمد فؤاد، صاحب المجلة الأدبية الأسبوعية «الصاعقة»، والأديب مصطفى لطفى المنفلوطى.. كانوا يواجهون اتهام «العيب فى الذات الخديوية» فى القضية التى أسمتها بعض الصحف «قضية السفهاء» حسب أحمد شفيق باشا رئيس ديوان الخديو عباس الثانى فى مذكراته، مؤكدا: «هذه القضية شغلت الأفكار مدى حين».. ووصفها «سعد رضوان» بأنها «هزت مصر»، وذلك فى دراسته «عهد جويدان»، ضمن مذكرات «الأميرة جويدان زوجة الخديو عباس الثانى» عن «دار الهلال-القاهرة».
عاد الخديو عباس الثانى من الإسكندرية إلى القاهرة يوم 3 نوفمبر 1897، وفقا لشفيق باشا، مؤكدا أنه فى هذا اليوم تم طبع قصيدة تهاجم الخديو وتوزيعها على الجمهور، ويوضح «سعد رضوان»: «كانت هناك مجلة أدبية اسمها «الصاعقة» يصدرها أسبوعيا صحفى وأديب اسمه «أحمد فؤاد»، وظهر عدد المجلة فى نفس يوم عودة الخديو، وفى صفحته الأولى قصيدة عنوانها: «تهنئة مرفوعة إلى عباس حلمى لمناسبة عودته إلى القاهرة».. وكان مطلع القصيدة: «قدوم ولكن لا أقول سعيد/وملك وإن طال الملك سيبيد/ تذكرنا رؤياك أيام أنزلت/ علينا خطوب من جدودك سود/ رمتنا بكم مقدونيا فأصابنا/مصوب سهم بالبلاء سديد/ فلما توليتم طغيتم وهكذا/ إذا أصبح عباس وهو عميد/ كأنى بقصر الملك أصبح بائدا/ من الظلم والظلم المبنى مبيد/أعباس ترجو أن تكون خليفة/ كما ود آباء ورام جدود/ فياليت دنيانا تزول وليتنا/ نكون ببطن الأرض حين تسود».
يؤكد رضوان: «اهتزت مصر للقصيدة، وقامت قيامة القصر، وأصدر ناظر الحقانية أمرا إلى النيابة باعتقال صاحب الجريدة والتحقيق معه، واعتقل أحمد فؤاد، فقرر أول الأمر أنه ناظم القصيدة، وسيطبعها مرة ومرات لتنتشر بين الناس، وإن كان يأسف على شىء، فهو أسفه على أن عدد المجلة تأخر فى الطبع».
عاد أحمد فؤاد وغير أقواله فى التحقيقات، وحسب رضوان: «قرر أن على يوسف صاحب جريدة المؤيد أعطاه نسخة القصيدة، وطلب منه نشرها، ودفع له مالا مقابل ذلك على أن يقول إذا سئل عنها، إن صاحب جريدة المقطم والشيخ محمد توفيق البكرى هما اللذان أعطياها له، وأمر وكيل النيابة يوسف سليمان إزاء هذا التضارب فى أقوال الرجل، باستدعاء صاحب المطبعة الشيخ محمد الخيامى التى طبع فيها العدد، وقال الخيامى إن أحمد فؤاد أحضر القصيدة، وكان يرافقه مصطفى لطفى المنفلوطى، فقبض على المنفلوطى الذى اعترف بأنه ناظم القصيدة، ولكنه لم يكن ينوى نشرها».. يؤكد رضوان، أن القصيدة ذاعت فى مصر، وتم تداولها لدرجة أن طلبة المدارس كانوا ينسخونها باليد ويبيعونها لبعضهم وغيرهم، ففكر رجال القصر فى مواجهة هذا الانتشار، فاهتدوا إلى حيلة غريبة وهى، أن يقلب شاعر أبيات القصيدة، أى تحويلها من ذم إلى مدح، للقضاء كلية على أى أثر سلبى لها، حسب تأكيد رضوان، مضيفا: «كان هناك صحفى اسمه سليم سركيس يصدر مجلة «المشير»، كلفته سلطات القصر بأن يعثر على شاعر يقوم بهذه المهمة، فجاء بالشيخ عثمان الموصلى، وقام بقلب القصيدة، بأن يأخذ كل شطر من أبياتها، ويؤلف من عنده شطرا ثانيا له على نفس الوزن فى مديح الخديو، ونشرت «المشير» القصيدة «المقلوبة» ومن أبياتها: «قدوم ولا أقول سعيد/ على فاجر هجو الملوك يريد/ رمتنا بكم مقدونيا فأصابنا/ رخاء عن الجدب المبيد بعيد».
قرر «أحمد فؤاد» مواجهة القصيدة المقلوبة «بفضح العائلة العلوية بطريقة أخرى، فيوم نظرها من المحكمة للقضية بعد أن أحالتها النيابة إليها، وقف المتهمون الثلاثة، ووفقا لسعد رضوان: «يظهر أن أحمد فؤاد كان يعلم أنه سيحكم عليه مهما دافع عن نفسه فانتهزها فرصة للنيل من الأسرة المالكة فقال: «إن الرعية لم تسر حقا بقدوم الخديو، وإن محبة الرعية الملكية أمر اختيارى، وما من ملك إلا وله من لا يسر بقدومه، والملك لا يستطيع إرغام رعيته على محبته، لأن الملك يملك أجسام الناس ولا يملك قلوبهم.. وأنه ليس أول من جاهر وأعلن للناس مظالم الخديو، فإن أحدا لا ينسى قصة مدفع الوالى سعيد التى نشرتها صحف مصر فى وقتها، فقد استورد الجيش مدفعا جديدا من فرنسا، وطلب سعيد تجربته فى أحد الميادين العامة، ونقل المدفع إلى ميدان عام، وأمر بإطلاقه فاقترب منه أحد رجال الحاشية، وقال: «هل يأمر أفندينا بأن نتمهل قليلا حتى يمر الناس»، فرد سعيد: «ليس عندى وقت، أطلق النار فنحن لم نستلم الناس بالعدد»، وأضاف «فؤاد» وقائع أخرى، منها أن الخديو إسماعيل أراد جمع مبلغ من المال، فصنع شارات جوخ وزعها على أهالى طنطا مقابل خمسمائة جنيه للشارة.. ومنها أن رجال إسماعيل حاصروا مرة بلدة بالوجه القبلى، هرب إليها أحد خصوم إسماعيل فأمر بضربها بالمدافع».
فضح «فؤاد» العائلة العلوية، وقضت المحكمة فى جلستها يوم 4 ديسمبر «مثل هذا اليوم 1897» بسجنه عشرين شهرا وغرامة ثلاثين جنيها مصريا، وحبس مصطفى لطفى المنفلوطى شهرا وغرامة عشرين جنيها، وبراءة الشيخ محمد الخيامى صاحب المطبعة.