عممت إدارة المخابرات البريطانية أمرها إلى فروعها فى الخارج يوم 9 ديسمبر 1924 بالقبض على الفدائى أحمد حسن عبدالحى كيرة فى أوربا أو استانبول.. «راجع - ذات يوم 9 ديسمبر 2018»، فنشطت عملية البحث عنه منذ اليوم التالى «10 ديسمبر، مثل هذا اليوم 1924».. وحسب مصطفى أمين فى كتابه «الكتاب الممنوع - أسرار ثورة 1919»، فإن مدير المخابرات البريطانية فى القاهرة مستر ألكسندر كين بويد هو الذى تولى كتابة أوصاف «كيرة» نقلا عن إدارة أرشيف إدارة الأمن العام فى وزارة الداخلية المصرية، وأرسل كين بويد إلى إدارة المخابرات البريطانية فى لندن صورة له طبعت مع أمر القبض عليه حيا أو ميتا.
واللافت أن أمر القبض على «كيرة» جاء بعد عامين من هروبه أو تهريبه من مصر، ووفقا لأمين فإن ذلك تم فى شهر يناير 1922، وبحسب صبرى أبوالمجد فى الجزء الثالث من كتابه «سنوات ما قبل الثورة 1930 - 1952»، فإن الحقلة الفدائية التى كانت تضم كيرة انكشف أمرها، فبادر بالفرار من مصر بعد أن اتفق بعض زملائه مع ربان باخرة إيطالية على تقاضى 200 جنيه مقابل ذلك، وقبل يوم واحد من رحيل الباخرة قال القبطان، إنه لا يقبض المبلغ المتفق عليه إلا ذهبا، ولما كان الوقت ضيقا انتشر أصدقاء كيرة وزملاؤه فى القاهرة والإسكندرية يستبدلون الورق بالذهب حتى اشترى بعضهم الجنيه الذهبى بـ150 قرشا، وفى بضع ساعات سلم المبلغ إلى القبطان وقبل إبحار الباخرة بنصف ساعة اختبأ كيرة فى حجرة بالباخرة بينما يبحث البوليس عنه فى كل مكان.
نزل «كيرة» فى أول ميناء إيطالى وحيدا مطاردا وفقا لأبوالمجد، مضيفا أنه بعد بضعة أيام أيقن أن السلطات الإيطالية تراقبه، ففر إلى ألمانيا، واشتغل فى تقطيع الأخشاب ليكسب ثمن الطعام، واتخذ من الحدائق مسكنا، وأحس بالجواسيس حوله فهرب إلى تركيا، وعمل فى أكثر من مجال من أجل لقمة العيش، لكن عيون الجواسيس كانت تراقبه، وكان هو قادر على كشفها.. يكشف أبوالمجد، أن كيرة كان شريكا لأحمد ماهر «رئيس الوزراء فيما بعد» فى التنظيم السرى المسلح لثورة 1919، وتشاركا معا فى أكثر من عملية فدائية، ولما اعتقل «ماهر» فى قضية «الاغتيالات السياسية» عام 1925، كانت سلطات الاحتلال البريطانى فى مصر تريد رقبة «ماهر» بأى ثمن، وكانت شهادة «كيرة» تؤدى حتما إلى ذلك، فبعثت السلطات البريطانية برسول منها إلى «استانبول» لجس نبضه وإغرائه، ويذكر أبوالمجد: «وضع الرسول أمام عينيه كيسا من النقود فيه عشرة آلاف جنيه يضاف إليها ضمان العفو والعودة إلى الوطن والتخلص من آلام الاغتراب والاضطهاد، مقابل أن يكون شاهد الإثبات ضد أحمد ماهر، لكنه رفض، وتمسك بالرفض رغم مضاعفة المبلغ إلى أربعين ألف جنيه.
لم تقف خطورة «كيرة» عند مرحلة ما قبل تهريبه، وإنما رأت المخابرات البريطانية أن خطره مازال قائما فى غربته، وحسب مصطفى أمين، فإن اللورد أللنبى المندوب السامى البريطانى فى مصر أرسل برقية إلى وزير خارجيته فى لندن يوم 6 ديسمبر 1924 يقول فيها: إن المخابرات البريطانية فى القاهرة عرفت أن «عبده» الذى ورد اسمه فى خطابات مضبوطة ومكتوبة بحبر سرى مكلف من الجهاز السرى بأن يسافر إلى لندن لقيادة عملية اغتيال ثلاثة وزراء بريطانيين، وإلقاء قنابل على دور الوزارات فى لندن، وعبده هو أحمد عبدالحى كيرة، وهو من أخطر المشتركين فى الجهاز السرى لثورة سنة 1919، وهرب فى يناير 1922 بعد أن اكتشف دوره فى الجهاز السرى، وموجود فى استانبول، وهو البلد الذى أرسلت إليه قيادة الجهاز السرى من القاهرة الخطاب المضبوط على عنوان «محمد بك محمد» - يحفظ فى شباك البوستة العمومية فى استانبول.. وفى يوم 8 ديسمبر سنة 1924 أرسل «أللنبى» برقية إلى وزير الخارجية البريطانية بأوصاف أحمد كيرة، وقال إن صورته موجودة مع ملفه فى أرشيف إدارة المخابرات البريطانية فى لندن.
كان الخديو عباس حلمى الثانى فى استانبول وقت وجود كيرة فيها، بعد خلعه من حكم مصر بقرار من الاحتلال الإنجليزى عام 1914، وتنصيب حسين كامل سلطانا، وفى نفس المدينة كان يقيم «كيرة»، ويذكر «أبوالمجد» قصة وقعت بينهما، قائلا، إن الخديو عباس الثانى وصل إلى استانبول يحيط به العشرات من الجواسيس والبوليس السرى والعلنى، وقيل إن فى استانبول شابا مصريا يقيم على مقربة من قصره ينوى اغتياله، والثمن سيكون عفو السلطات البريطانية عنه، وإعادته إلى مصر.. يضيف أبوالمجد: «عاش الخديو فى جو من الرعب وضاعف من احتياطات الحراسة من حوله، ومن حول قصره، كما اعتمد على البوليس التركى لحمايته أيضا، ولكن فى صبيحة أحد الأيام، وبينما كان الخديو جالسا فى حجرة مكتبه يطالع الصحف والبريد، إذا بشاب ينتصب وافقا أمامه، فسأله الخديو: من تكون؟ أجاب: أحمد عبدالحى كيرة - تهالك الخديو على مكتبه بعد أن فقد أعصابه وأيقن أن الموت على مقربة منه.. وأخرج «كيرة» مسدسه ورماه أمام الخديو وهو يقول له: يارجل أنت فى قبضة يدى الآن، لست أعجز عن نيلك مهما اتخذت من احتياطات.. ثق أنه لم يخطر ببالى أن أفعل ما صوروه لك، كنت خديويا لمصر وأنت الآن بلا سلطة وما كان لى أن أحارب رجلا أعزل من كل سلاح، ومضى كيرة بعد أن قدم التحية للخديو السابق ثم استعاد مسدسه.. يؤكد أبوالمجد «حاول الخديو أن يتخذه صديقا أو سندا، لكن كيرة رفض».
واصلت المخابرات البريطانية حشد جهودها لليوم الثالث من نشرتها بالقبض على كيرة، فكيف واجه هو ذلك؟.. يجيب الكاتب الروائى يحيى حقى على السؤال؟