بعد أن سلم الرئيس جمال عبدالناصر الكاتب توفيق الحكيم «قلادة النيل» فى مكتبه بقصر الرئاسة، وجه «الحكيم» كلمته إلى الرئيس: «هذه القلادة هى تقليد لصدر الفكر والثقافة فى مصر والشرق العربى لم يسبق لها مثيل فى التاريخ الفكرى، ولا شك أن هذا التكريم هو بداية عصر نهضة فكرية عظيمة، افتتحها الرئيس جمال عبدالناصر، يرفع بها منارة حضارة عظيمة للعرب والعروبة».. رد الرئيس: «إنك جدير بذلك»، وفقا للفيلم التسجيلى لهذا الحدث.
كان توقيت منح عبدالناصر القلادة للحكيم لافتا، فحسب الدكتور لويس عوض فى كتابه «الحرية ونقد الحرية»: «اشتدت الحملة الصحفية على الحكيم عام 1958، وحسم الزعيم الراحل الأمر بأن منحه فى 17 ديسمبر - مثل هذا اليوم - 1958، قلادة النيل التى تمنح عادة للملوك ورؤساء الجمهوريات».
قاد أحمد رشدى صالح الحملة الصحفية ضد«الحكيم» فى جريدة الجمهورية، وحسب جريدة «الحياة- لندن- 28 يوليو1997»، فإن «رشدى اتهم الحكيم بأنه سرق كثيرا من أعماله من نصوص أوروبية، خصوصا «حمارى قال لى» و«حمار الحكيم»، وسرقهما عن الأديب الإسبانى «خمينيز»، ويكشف رجاء النقاش للحياة: «تفجرت القضية على صفحات جريدة الجمهورية، وشارك فيها معظم كتاب مصر فى ذلك الحين».. وبالرغم من أن هناك كتابا ساندوا الحكيم بقوة منهم «النقاش»، الذى كتب فى يوميات جريدة الأخبار يبرئ الحكيم، فإن النقاش يؤكد: «أثرت على الحكيم هذه الاتهامات بشكل عنيف، ووصل إلى حالة نفسية بالغة السوء، لأنه شعر بأن مجده الأدبى الكبير ينهار أمام ضربات الناقد رشدى صالح».
دافع «إحسان عبدالقدوس» عن الحكيم بقوة، وكتب فى روزاليوسف: «ترددت كثيرا قبل أن أدلى برأيى فى الحملة التى أثارها أحمد رشدى صالح ضد توفيق الحكيم.. ترددت لأننى كاتب ولست ناقدا، وترددت أكثر لأننى لم أكن أريد للحملة أن تتسع، وأن نجر إليها المزيد من الأقلام.. لكن الحملة اتسعت ولن يزيدها قلمى اتساعا.. رشدى صالح يتهم توفيق الحكيم بأنه يقتبس إنتاجه من إنتاج كتاب غربيين ماعدا روايتيه «عودة الروح»، و«يوميات نائب فى الأرياف»، ورشدى كان يعتبر بيننا ناقدا جادا وباحثا أدبيا لا يكتب كلاما فى الهواء، لكن استطراده فى اتهام الحكيم بمجموعة مقالات جعل لها طعم الاتهام، وقامت ضجة أدبية، لهذا غلبت عليها الإثارة الصحفية اختفت خلالها كل الجهود التى بذلها رشدى صالح ليحتفظ بمكانته كناقد أدبى جاد، ولعل رشدى لم يقصد الإثارة الصحفية.. فى رأيى أن الضحية الحقيقية لهذه الضجة هو أحمد رشدى صالح نفسه، لأنه ضحية للصحافة وللفن الصحفى، وتوفيق الحكيم ليس ضحية، إنه لايزال توفيق الحكيم، وسيبقى توفيق الحكيم فى حاضرنا ومستقبلنا، وليست هذه هى المرة الأولى التى يتهم فيها الحكيم بالاقتباس، وأذكر أنهم اتهموه من قبل بسرقة روايته «الرباط المقدس».. وراح هؤلاء منذ عشرات السنين وبقى توفيق الحكيم يكتب ويؤلف، وسر بقائه أنه فنان. أتمنى أن ترتفع مناقشاتنا إلى مستوى المبادئ الأساسية، وما يهمنى هو أن نحمى أدبنا من «شهوة الصحافة»، ومحاولة النيل من غيرنا من أجل بقائنا.
دخلت السياسة على الخط، بمنح عبدالناصر «قلادة النيل» للحكيم، ويرى لويس عوض: «كان لهذه الإشارة مغزى واضح وعميق، كانت بمثابة إعلان رأى الدولة فى توفيق الحكيم، أو بمثابة فصل الخطاب بمعنى: كفى عبثا أيها النقاد الناقصون فى الشعور بمسؤولية الكلمة، فإن الحكيم قيمة كبرى فى المجتمع ينبغى أن تصان».. يذكر لويس عوض مناسبة أخرى سابقة تؤكد مكانة «الحكيم» عند عبدالناصر، قائلا: إنه منذ سنوات اطلع فى مكتبة الحكيم على نسخة من كتاب «فلسفة الثورة» بإهداء من عبدالناصر: «إلى باعث الأدب الأستاذ توفيق الحكيم.. مطالبا بعودة الروح مرة أخرى بعد الثورة».
ويذكر مناسبة ثالثة قائلا: «فى مطلع الثورة 23 يوليو1952» حمى عبدالناصر، الحكيم فى حركة التطهير، يوم أن أعد إسماعيل القبانى وزير المعارف قائمة بموظفين وزارته غير المنتجين، ودخل بها مجلس الوزراء طالبا إحالتهم على المعاش، وكان الحكيم يومئذ مدير دار الكتب وأحد كبار الموظفين فى القائمة، فاعترض عبدالناصر، وكان آنذاك رئيس الوزراء، ونوه بما لتوفيق الحكيم من مكانة فى الأدب المصرى الحديث، كما نوه بتكريم الأوساط الأدبية والفنية فى أوروبا له.. وحين أدلى فتحى رضوان وكان يومئذ وزير الإرشاد القومى ببيان للصحف عما جرى من مداولات فى مجلس الوزراء بشأن توفيق الحكيم، عد وزير المعارف نشر هذه المداولات إحراجا له ومؤاخذة لتصرفاته، فاستقال فى ديسمبر 1954، وقبلت استقالته، وبدا للرأى العام عندئذ أن الزعيم الراحل وضع الوزير فى كفة، والأديب فى كفة أخرى، فرجحت كفة الأديب».
يستدعى «عوض» كل ذلك مؤكدا: «كتاب عودة الروح «للحكيم» عام 1933، ترك أعمق الأثر فى نفس الفتى جمال عبدالناصر، ويتعجب من إقدام «الحكيم» على كتابه «عودة الوعى» عام 1974، منتقدا ما جاء فيه من هجوم ضارى ضد عبدالناصر، مشيرا إلى أنه لا يصدقه.