يبدو أن استمرار المظاهرات فى العاصمة الفرنسية باريس أصبح بمثابة كابوس يواجه الرئيس إيمانويل ماكرون، تزامنا مع ارتفاع سقف المطالب، والتى تخطت الجانب الاجتماعى، لتأخذ منحى سياسيا، فى ظل المطالبة باستقالة الرئيس الفرنسى، وحل الجمعية الوطنية «البرلمان»، بالإضافة إلى الخروج من الاتحاد الأوروبى، حيث لم تشفع التنازلات التى قدمتها الحكومة الأسبوع الماضى، فى تهدئة حدة الغضب الذى تشهده شوارع باريس.
ولعل التطابق بين مطالبات المتظاهرين من جهة والأجندة السياسية التى تتبناها التيارات اليمينية، وعلى رأسها حزب الجبهة الوطنية، والذى تترأسه مارين لوبان، من جهة أخرى، دفع قطاعا كبيرا من المتابعين إلى إلقاء الاتهامات على تلك التيارات بإشعال الأوضاع فى باريس فى المرحلة الراهنة، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية عبر ممارسة الضغوط على الرئيس الفرنسى، والذى بدا متمسكا بأجندته سواء فى الداخل الفرنسى، أو على المستوى الأوروبى.
«انفراد» تواصل مع السياسى الفرنسى جان مسيحة، المستشار السياسى لزعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية مارين لوبان، لتوضيح رؤيته للأوضاع الحالية، فى العاصمة الفرنسية، وما ستؤول إليه الأحداث فى الأيام المقبلة.. وإليكم نص الحوار:
كيف ترون الأوضاع الحالية التى تشهدها العاصمة الفرنسية باريس؟
- المظاهرات الحالية هى نتيجة مباشرة لمعاناة الشعب الفرنسى المركزى «ذات الجذور الفرنسية» من جراء سياسات العولمة والليبرالية، التى تطبق عليهم منذ عام 1983، خاصة مع مواصلة الضغوط التى يمارسها الرئيس ماكرون، منذ انتخابه العام الماضى، وبالتالى فشعر المواطنون الفرنسيون، والذين يتحملون العبء الأكبر من خلال الضرائب التى يدفعونها للحكومة، بأنهم مهملين من قبل القيادة السياسية.
الشعب الفرنسى أصبح يشعر أنه لا يمثل الأولوية لدى النظام الحاكم فى باريس، وبالتالى أصبح غريبا فى بلده، فى ظل سياسات تقوم فى الأساس على دعم الأقليات والمهاجرين القادمين من الدول الأخرى، فى الوقت الذى يقوم فيه الفرنسيون بتمويل تلك الحكومة التى تسعى إلى تهميشهم عبر استحداث المزيد من الضرائب، وكذلك إزالة المزايا التى يمنحها القانون لقطاعات كبيرة من الموظفين، والمتقاعدين، وهو الأمر الذى أدى فى النهاية إلى حالة من الانفجار نشهدها فى المرحلة الراهنة.
ولكن الرئيس ماكرون أقدم على تنازلات عدة وفى الوقت نفسه مازالت المظاهرات قائمة.. كيف تفسرون ذلك؟
- بالفعل.. لأن حركة السترات الصفراء لا تسعى فقط إلى تغيير السياسات الضريبية، خاصة أن حالة عدم الرضا عن الأداء الحكومى لا تقتصر على الضرائب التى فرضها ماكرون، وعلى رأسها ضريبة المحروقات، وإنما كانت بمثابة القشة التى قصمت ظهر البعير، ولكن الأمر يمتد إلى السياسات التى تمنح الأولوية للأجانب، سواء فى الجانب التجارى أو فيما يتعلق بمجال الجنسية أو غيرها من السياسات، وبالتالى فإن التنازلات التى أقدم عليها النظام الفرنسى لم تكن كافية إطلاقا، لأنها كانت ينبغى أن تمتد إلى تغيير أكبر فى السياسات التى يتبناها النظام بشكل عام.
هناك حديث عن قلة أعداد المشاركين فى المظاهرات التى شهدتها باريس مؤخراً.. هل ترون ذلك مؤشرا لانقسام بين أنصار «السترات الصفراء» حول مطالب المتظاهرين؟
- فى الواقع المشكلة ليست فى أعداد المشاركين فى التظاهرات، ولعل ما أثاره النظام الفرنسى حول قلة أعداد المتظاهرين هو مجرد محاولة لطمأنة أنفسهم، خاصة أن المعضلة الحقيقية التى تواجهها الحكومة ليست فى أعداد المشاركين فى المظاهرات، ولكن هناك نسبة الفرنسيين المساندين للمتظاهرين، فالمواطنون الغاضبون من سياسات ماكرون لا يقتصرون على المشاركين فى مظاهرات الشوارع والميادين، ولكنهم يمتدون إلى قطاع آخر يمكننا تسميته بـ«ثورجية الصالونات»، وهم يتبنون نفس الأهداف التى أعلنتها حركة «السترات الصفراء»، وعلى رأسها تغيير النظام.
وطبقا لآخر الإحصاءات التى أعلنت قبل التظاهرات، فإن %84 من الفرنسيين أعلنوا دعمهم الكامل لحركة السترات الصفراء، بينما أصبحت النسبة حوالى %70 بعد القرارات الأخيرة التى اتخذها ماكرون للتراجع عن سياساته الضريبية من أجل تهدئة الشارع، وهو ما يمثل سندا تاريخيا مهما، حيث لم تحظَ أى حركة اجتماعية فى التاريخ بالدعم الذى تناله «السترات الصفراء» فى الوقت الراهن بين الشعب الفرنسى.
أما عن مسألة الانقسام، فهى المحاولة التى يسعى ماكرون إلى تحقيقها فى المرحلة الراهنة، حيث إن التنازلات التى أقدم عليها الأسبوع الماضى، لم تستهدف استرضاء نشطاء السترات الصفراء، أو عشرات الآلاف الذين يتظاهرون فى الشوارع، وإنما تستهدف الكتلة الأكبر الداعمة للحركة، والذين يمثلون أغلبية كبيرة من الشعب الفرنسى، وذلك بهدف إثارة الانقسام وكسر التكتل المساند للمتظاهرين.
تحدثتم عن مطلب تغيير النظام على اعتبار أن استقالة الرئيس على رأس القائمة التى أعلنتها «السترات الصفراء» وهو ما يعد أمرا غريبا على الديمقراطية الغربية.. ما تفسيرك لهذا المطلب؟
- الحديث عن استقالة الرئيس ليس أمرا جديدا على فرنسا، فالإحصاءات تؤكد أن %51 من الفرنسيين يرغبون فى استقالة ماكرون، وهى نفس النسبة التى أظهرتها الإحصاءات فى عهد الرئيس السابق فرنسوا أولاند.
ولكن المشكلة التى تواجه ماكرون هى أنه تم انتخابه بأقل نسبة أصوات تاريخيا، كما أن الكتلة البرلمانية الموالية له حصدت مقاعدها فى الجمعية الوطنية بنسبة أصوات قليلة جدا، إذا ما قورنت بالأغلبية البرلمانية فى حقب سابقة.
لو نظرنا مثلا إلى الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، نجد أن ثلاثة مرشحين، كانوا منافسين لماكرون، حصدوا %48 من الأصوات، بينما يتم تمثيلهم فى البرلمان بحوالى %4 فقط من مقاعد الجمعية الوطنية، وهو ما يعنى أن ما يقرب من نصف الفرنسيين الذين شاركوا فى انتخابات الرئاسية لا يمثلهم سوى %4 من النواب فى البرلمان، وهو ما يمثل تحدى كبير للمؤسسة التشريعية فى فرنسا، وكذلك للشعب الفرنسى، والذى سيفشل حتما فى التعبير عن مطالباته عبر البرلمان، وبالتالى لن يجد سوى الشارع للتعبير عنها.
وهل ترون أن استقالة ماكرون ستقدم حلا للأزمة الحالية التى تشهدها فرنسا؟
- النظام الفرنسى مازال قويا، يحظى بدعم كبير من الجانب القانونى والدستورى، حيث أنه لا يمكن لأحد إجبار الرئيس على الاستقالة من منصبه فى الأوضاع العادية، إلا إذا تطورت الأمور إلى «ثورة» حقيقية تسفر عن ضحايا بالألاف، وهو الأمر الذى مازالنا لم نصل إليه، ولا نتمناه.
ولكن الأمر مازال الأمر بيد ماكرون، عبر الوصول إلى حل سياسى أخر، يتمثل فى حل الجمعية الوطنية «البرلمان»، وهو الأمر الذى من شأنه تخفيف حدة المطالبات باستقالته فى المرحلة الحالية، لأن هذا الحل سيفتح الباب أمام انتخابات برلمانية جديدة تفتح الباب أمام المواطن الفرنسى للتعبير عن رأيه عبر الصندوق الانتخابى.
ويمثل حل البرلمان حلا سياسيا تاريخيا لجأ إليه العديد من الرؤساء السابقين فى فرنسا لتهدئة الغضب الشعبى، خاصة مع بداية الجمهورية الفرنسية الخامسة، ولعل أبرزهم الرئيس الأسبق شارل ديجول، والذى لجأ إلى الحل نفسه فى عام 1968، عندما أعرب الفرنسيون عن غضبهم فى ذلك الوقت، مما دفع إلى أحداث عنف واشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين.
المشكلة الرئيسية التى يواجهها ماكرون أنه يبقى رافضا لكل الحلول المتاحة، سواء تقديم استقالته أو حل البرلمان، أو تغيير سياساته الاقتصادية رأسا على عقب، وبالتالى فهو لا يريد أن يعطى المواطن الفرنسى الغاضب طريقا آخر للتعبير عن غضبه سوى اللجوء إلى الشارع.
زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية مارين لوبان شاركت فى حوار مع رئيس الوزراء الفرنسى إدوار فيليب.. ما أهم المطالب التى تقدمتم بها؟
- بالفعل شاركت لوبان فى لقاء مع رئيس الوزراء فى بداية الأزمة، بناء على دعوة من الأخير، لمناقشة الكيفية التى يمكن من خلالها إنهاء الأوضاع، حيث تبنت المطالب الرئيسية للسترات الصفراء، وعلى رأسها إعادة الضرائب التى كانت مفروضة على الأثرياء، والتى قام ماكرون بإلغائها، خاصة أن قرار إلغائها وضع المزيد من القيود على الطبقتين الوسطى والفقيرة فى المجتمع الفرنسى، بالإضافة إلى إلغاء حزم الضرائب الأخرى التى فرضت على المواطنين.
إلا أن حزب الجبهة الوطنية لديه مطالب أخرى تحدثت عنها لوبان، أهمها إحداث تغيير جذرى فى السياسات التى تتبناها الحكومة الفرنسية تجاه مختلف القضايا، وأهمها التخلى عن سياسات العولمة والليبرالية والأسواق المفتوحة، وهى السياسات التى يكتب العالم كلمة النهاية بصددها، مع صعود العديد من القادة الذين يؤمنون بالدولة الوطنية، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وصعود اليمينيين فى إيطاليا والبرازيل والعديد من الدول الأخرى، بالإضافة إلى بعض القضايا التى فرصت نفسها بقوة على الساحة العالمية، وعلى رأسها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى «بريكست»، والذى يمثل انقلابا على مبادئ ما يمكننا بالنظام العالمى القديم.
تحدثتم عن دور الرئيس ترامب فى التغيير الذى يشهده العالم.. هل يمكننا الحديث عن دور أمريكى فى الحراك الفرنسى بعد مطالبة الحكومة الفرنسية للولايات المتحدة بعدم التدخل فى شؤونها الداخلية؟
الأمر لا يحتاج إلى دور أمريكى لكى تقوم التظاهرات فى فرنسا، فالشعب الفرنسى متعلم ومثقف، وبالتالى فهم مؤهلون لمعرفة ماذا يدور فى العالم، ومقارنته بما تشهده الساحة الداخلية الفرنسية.
الفرنسيون يرون الإنجازات التى حققها الرئيس الأمريكى، خاصة على الصعيد الاقتصادى، حيث بلغ النمو الاقتصادى حوالى %4.5، بينما تقلصت نسبة البطالة لتصل إلى حوالى %3 بعدما كانت أكثر من %7 فى عهد سلفه باراك أوباما، بينما يعانى الفرنسيون من جراء البطالة والفقر، فى حين يحصل الأجانب على الفرص التى ينبغى أن تكون متاحة لهم بفعل إيمان ماكرون بمبادئ العولمة والليبرالية.
الرئيس الفرنسى يمثل وجها جديدا لنظام قديم، فهو لم يكن صاحب دور كبير على الساحة السياسية الفرنسية قبل وصوله إلى الإليزيه، وبالتالى لم يكن معروفا بصورة كبيرة للناخبين الفرنسيين، واختاروه على اعتباره يحمل فكرا جديدا بحكم أنه مازال شابا، إلا أنه فى واقع الأمر يحمل لواء أسلافه، وهو ما يمثل السبب الحقيقى وراء غضب الفرنسيين، وبالتالى فالأمر لا يبدو مرتبطا بأى حال من الأحوال بأدوار لعبتها دول أخرى لإشعال الأوضاع فى الداخل الفرنسى.
هناك حديث تناولته العديد من المنابر الإعلامية حول دور لأحزاب اليمين فى فرنسا، وعلى رأسها الجبهة الوطنية، لإشعال الأوضاع فى باريس.. كيف يمكنكم الرد على ذلك؟
- اليمين الفرنسى لم يقم بأى دور من شأنه المساهمة فى إشعال الفوضى فى باريس، والدليل على ذلك أن كل الأشخاص الذين تم القبض عليهم فى أحداث الشغب كانوا من المنتمين للتيارات اليسارية، حيث استهدفوا ممتلكات المواطنين فى الأحياء الراقية، بالإضافة إلى مهاجمتهم للبنوك، ما عدا شخص واحد منتمى إلى التيار اليمينى تم القبض عليه، وذلك بحسب ما ذكرته وسائل الإعلام الفرنسية. ولكن يبقى حديث الإعلام عن اليمين سواء فى فرنسا، أو دول غربية أخرى مشوها ومجافيا للحقيقة، حيث تسعى دائما العديد من المنابر الإعلامية إلى تشويه الدور الذى تلعبه تلك التيارات، وهو ما يبدو واضحا فى الحملات الإعلامية التى تستهدف الرئيس الأمريكى، وهو الأمر الذى دفعه منذ بداية حقبته إلى استخدام مواقع التواصل الاجتماعى لمخاطبة المواطنين الأمريكيين.
ولماذا يحاول الإعلام استهدافكم؟
- نحن الآن فى مرحلة انتقالية كما ذكرت من قبل، حيث يشهد العالم انتقالا من سياسات العولمة والانفتاح والمنافسة غير المحدودة إلى عالم جديد تتصدر فيه الأفكار القومية المشهد الدولى، من خلال احترام الخصوصية الثقافية والسياسية لكل دولة على حدة، واحترام حدود الدول وسيادتها واستقلالية قراراتها، بينما تبقى المنابر الإعلامية متمسكة بتلك الأفكار التى لفظها العالم، بسبب أفكار القائمين عليها، وبالتالى يصبح استهداف التيارات اليمينية أمرا طبيعيا لتحقيق مصالحهم، وهو الأمر الذى لا يقتصر على فرنسا، ولكن يمتد إلى دول أخرى فى العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة نفسها.