كانت الرسالة سرية ومكتوبة باللغة الفرنسية، وحاملها رسول خاص إلى الرئيس جمال عبدالناصر، وأرسلها الزعيم الجزائرى أحمد بن بيلا ورفاقه من قادة الثورة الجزائرية الذين اختطفتهم فرنسا يوم 22 أكتوبر 1956، حسب فتحى الديب فى كتابه «عبدالناصر وثورة الجزائر».
كانت الثورة الجزائرية فى عنفوانها منذ بدء كفاحها المسلح فى أول نوفمبر 1954 بمساعدة مصر التى قدمت كل أنواع الدعم لها، بتدريب كوادر الثورة على الكفاح المسلح فى معسكر أنشاص، وشحن السلاح بالتهريب عبر سفن تتخفى فى الملاحة التجارية، والمساندة الإعلامية بقيادة إذاعة صوت العرب، وكان «الديب» الضابط بالمخابرات المصرية ومسؤول الشؤون العربية برئاسة الجمهورية، هو المنسق بين «عبدالناصر» وزعماء الثورة بقيادة بن بيلا، ويكشف الديب، أن بن بيلا كان فى لقاء مع عبدالناصر بمنزله يوم 15 أكتوبر 1956، وأبلغ عبدالناصر بأنه سيسافر إلى مدريد ومنها إلى المغرب وتونس للقاء العاهل المغربى السلطان محمد الخامس والرئيس التونسى الحبيب بورقيبة، لكن عبدالناصر أبدى له عدم ارتياحه لهذا السفر، ثم سافر بن بيلا من القاهرة يوم 16 أكتوبر مع محمد خيضر إلى مدريد للقاء محمد بوضياف وحسين آيات، ومن هناك بدأت رحلتهم إلى تونس والمغرب.
يكشف «بن بيلا» فى كتاب «مذكرات أحمد بن بيلا كما أملاها على روبير ميرل»، ترجمة «العفيف الأخضر» عن «دار الآداب-بيروت»: «كنا نرغب فى أن نخبر المغرب وتونس، اللذين ساندا جهود الثورة الجزائرية بشروط السلام التى عرضت علينا من الحكومة الفرنسية، وأثناء إقامتنا بالعاصمة الإسبانية قدم إلينا رسول من مولاى الحسن «العاهل المغربى فيما بعد»، وأعلمنا بأن السلطان «محمد الخامس» يرغب فى رؤيتنا فى الرباط.. وهناك اتفقنا على أن نذهب إلى تونس برفقة محمد الخامس..لكن لسوء الحظ أشعرنا القصر بأنه لعدم توفر المقاعد، لا نستطيع أن نصعد لطائرة صاحب الجلالة، وبأن طائرة ثانية ستوضع على ذمتنا».
ركب القادة الجزائريون الطائرة، ويتذكر بن بيلا، أنه وجد الطائرة تغير مسارها، وفجأة وجد نفسه ورفاقه فى مطار الجزائرفتأكد أنهم وقعوا فى الأسر، وتلقى فتحى الديب الخبر، وأعد خطة تحرك سياسية وإعلامية دولية للإفراج عنهم، ومن بين عناصرها دفع «بورقيبة» و«محمد الخامس» على تحريك القضية على المستوى الدولى، ووافق عليها عبدالناصر، وفيما وضعت السلطات الفرنسية المختطفين فى سجونها بفرنسا، تواصلت عملية الدعم المصرى للثورة الجزائرية وكفاحها المسلح، وكانت رسالة بن بيلا ورفاقه من سجنهم إلى جمال عبدالناصر وتلقاها فتحى الديب يوم 29 ديسمبر- مثل هذا اليوم- 1960 - تأكيدًا منهم على ثقتهم فى أن عبدالناصر هو الذى يستطيع تحريك قضيتهم.
يؤكد «الديب» أنه قام بترجمة الرسالة إلى اللغة العربية ورفعها إلى جمال عبدالناصر، واشتملت على خطة بن بيلا ورفاقه بالسجن لتحريك قضيتهم، وارتكزت على أنهم سيضربون عن الطعام، وطالبوا: «القيام بحملة فورية فى إذاعة صوت العرب والصحافة المصرية لمساندتهم طوال فترة إضرابهم عن الطعام..ترتيب عقد اجتماعات شعبية وحلقات دينية بالمساجد وتوزيع مطبوعات تساند قضيتهم.. إتمام اتصالات دبلوماسية بمبعوثى الدول الأجنبية للتدخل ومطالبة فرنسا بالإفراج عنهم.. قيام كل الهيئات الشعبية والتجمعات السياسية والنقابية بإرسال تلغرافات إلى هيئة الأمم المتحدة وإلى مندوبى الكتلة الآسيوية للتدخل السريع.. إضراب عمال الموانئ العربية عن التعامل مع السفن الفرنسية.. الإعلان عن بدء حملة لمقاطعة البضائع الفرنسية».
يؤكد «الديب»، أن الرسالة أكدت على أن تبنى مصر لقضيتهم سيدفع الحكومات العربية إلى السير وراءها بما فى ذلك حكومتى المغرب وتونس، وستؤدى إلى كسب الرأى العام لصالحهم، وأشار بن بيلا ورفاقه إلى أن الأهمية التى يعطيها إضرابهم والخطر الجسمانى الذى سيتعرضون له، يتطلب إحاطتهم بضمانات كافية لتأكيد نجاحهم فى عملهم.
يتذكر الديب، أن بعد رفعه لهذه الرسالة إلى الرئيس عبدالناصر مزودة برأيه، أعطى الرئيس موافقته على ماجاء فيها يوم 5 يناير 1959، ويؤكد:«قمت بإبلاغ الرسول الخاص ببلجيكا برقيا بالموافقة مطالبا إياه بإخطارى بالموعد الذى سيحدده الأخوة لبدء الإضراب، وبادرت بتكليف مدير صوت العرب أحمد سعيد لإعداد خطة الإعلام التى ستصاحب بدء الإعلان عن الإضراب، كما أعددت أسلوب تعامل صحافتنا مع الحملة الدعائية بالإذاعة، وأعددنا البيانات والبرقيات التى سترسل لجميع المحافل الدولية».
بعد كل هذه الاستعدادات تلقى «الديب» برقية سرية جديدة من بيلا ورفاقه تطالب بتأجيل تنفيذ الخطة، لأنهم قرروا تأجيل الإضراب عن الطعام لحين تبلور الموقف، بعد تولى الجنرال شارل ديجول الرئاسة الفرنسية، وظهور بوادر تغيير فى السياسية الفرنسية تجاه الجزائر.. يؤكد «الديب»: «أبلغت الرئيس بالتعديل وانتظرنا نتابع تطورات الموقف».