قرر الزعيم الهندى «نهرو» أن يجعل من سجنه وقتا لتلقين ابنته الوحيدة «أنديرا» دروسا فى السياسية والفكر، بكتابة رسائل إليها من زنزانته، ولما توفى يوم 27 مايو 1964 بدا أثر هذه الرسائل على الابنة، حيث خلفت والدها فى رئاسة الحكومة.
ولد نهرو يوم «14 نوفمبر 1889»، ودخل السجن لأول مرة عام 1921 بتهمة التحريض على الثورة ضد الاحتلال البريطانى لبلاده، وظل على نضاله إلى جانب أستاذه «غاندى» حتى نالت الهند استقلالها يوم 15 أغسطس 1947، وأصبح أول رئيس للوزارء بعد الاستقلال.
فى عام «1930»، كان فى السجن هو وزوجته، وكانت «أنديرا» 19 نوفمبر 1917-31 أكتوبر 1984 «تعيش وحيدة، وفى الثالثة عشرة من عمرها، فقرر والدها أن يكتب لها رسائله، حسبما يذكر الكاتب الصحفى أحمد بهاء الدين فى ترجمته لكتاب «رسائل نهرو إلى أنديرا»..
يذكر بهاء، أن نهرو جمع الرسائل «196 رسالة» فى كتاب بلغت صفحاته ألفا، وترجم «بهاء» الرسائل التى تناولت الثورات الكبرى، وتركت أثرها فى عالمنا المعاصر.
كتب «نهرو» رسالة يوم 5 يناير، مثل هذا اليوم، 1930، بعنوان «عبرة التاريخ»، يقول فيها: «أظن أننى كتبت إليك مرة أقول أن دراسة التاريخ يجب أن تعلمنا كيف أن العالم تطور ببطء، ولكن بلا توقف، كيف أن الحيوانات الأولى البسيطة أخلت مكانها لحيوانات أكثر تعقيدا وتقدما، وكيف جاء أخيرا الحيوان السيد الإنسان فانتصر بقوة ذكائه على الآخرين، إن تطور الإنسان من الهمجية إلى الحضارة موضوع التاريخ.. وقد حاولت فى بعض خطاباتى أن أوضح لك كيف أن فكرة التعاون المشترك قد تقدمت وكيف أن مثلنا الأعلى يجب أن يكون: العمل المشترك للخير العام».
ومع ذلك فإنه يحدث أحيانا أن ننظر إلى فترات معينة من التاريخ، فلا نكاد نصدق أن هذا المثل الأعلى قد تقدم فيها كثيرا، أو أننا قطعنا شوطا فى الحضارة بعيدا، فنحن اليوم مثلا فى أشد الحاجة إلى التعاون.. ومع ذلك فقد نرى دولة تهاجم دولة أخرى وتضطهدها فى أنانية، أو إنسانا يستغل إنسانا آخر، فنسأل أنفسنا: إذا كنا بعد ملايين السنين من التطور مانزال متخلفين، ضالين إلى هذا الحد، فكم ترى يلزمنا من الزمن حتى نتعلم كيف نتصرف كأناس عاقلين، ذوى ضمائر؟، أننا كثيرا ما نقرأ عن فترات غابرة من التاريخ فتبدو لنا خيرا من زمننا هذا، وأكثر ثقافة وتحضرا، مما يجعلنا نشك فى أن عالمنا ماض حقا إلى الأمام، لا إلى الوراء.. نعم لقد مرت ببعض البلاد عصور لامعة، مصر، الهند، الصين، اليونان، وغيرها، وأغلب هذه البلاد قد انتكست وعادت إلى الوراء، ولكن حتى هذا لا يجب أن يفقدنا الأمل، فالعالم كبير، وارتفاع أمة وانهيارها لفترة محدودة من الزمن لا ينفى تطور العالم كمجموع.
كثير من المعاصرين يتباهون بحضارة هذا العصر وبما حققه العلم الحديث من معجزات.. والعلم الحديث قد صنع المعجزات حقا.. ورجال العلم خليقون فعلا بكل تقدير، ولكن هؤلاء المتفاخرين قلما يكونون عظماء.. ويجرى بنا أن نذكر أن الإنسان من بعض النواحى لم يتقدم كثيرا عن الحيوانات ما تفوق على الإنسان من بعض الوجوه.. وقد يبدو هذا القول سخيفا، والذين لم تتسع معلوماتهم قد يسخرون منه، ولكن يكفى أن تقرأى ما كتبه «ميترلنك» عن حياة النمل، والنمل الأبيض وسوف تعجبين للنظام الاجتماعى الدقيق لهذه الحشرات.. أننا نعتبر الحشرات أدنى أنواع الكائنات الحية.. ومع ذلك فإن هذه الأحياء التافهة قد تعلمت من التعاون والتضحية فى سبيل الخير العام، أكثر مما فعل الإنسان..أننى منذ قرأت حياة النمل الأبيض وتضحية النملة فى سبيل رفاقها وأنا أحتفظ له فى قلبى بمكان عزيز، فإن كان التعاون وإيثار مصلحة المجموع هما معيار الحضارة فيجب أن نعرف بأن النمل الأبيض من هذه الناحية أرقى من البشر.
فى بعض كتبنا السسكريتية القديمة، نجد شعرا يمكن ترجمته كالآتى: «من أجل الأسرة يضحى بالفرد، ومن أجل الجماعة يضحى بالأسرة، ومن أجل الوطن يضحى بالجماعة، ومن أجل الروح يضحى بالعالم كله»..وقيل من يستطيع أن يفسر ما هى الروح، وربما فسرها كل واحد على نحو مختلف.. ولكن هذا الشعر يلقننا نفس الدرس فى التعاون والتضحية من أجل الخير العام.. لقد نسينا فى وطننا هذا الدرس زمنا طويلا، ونسينا أن هذا هو طريق العظمة الحقيقية.. ومن أجل ذلك سقطنا، ولكن بدأنا نعود بالتدريج إلى هذا السبيل.. ما أروع أن نرى الرجال والنساء والأولاد والبنات يضحون باسمين من أجل الوطن غير عابئين بأى شدة وعذاب..إننا نحاول اليوم أن نحرر وطننا، وهذا عمل عظيم، ولكن أعظم من ذلك أن نعمل لنحرر الإنسانية كلها.. ولأن صراعنا جزء من الصراع الإنسانى العظيم لإنهاء التعاسة والشقاء، فإننا نستطيع أن نقول إننا نقوم بدورنا فى العمل على تقدم العالم».