كانت الساعة الثانية عشرة والنصف تقريبًا، ظهر يوم 26 يناير- مثل هذا اليوم - 1952، حين بدأ حريق القاهرة بإشعال النار فى كازينو أوبرا ثم فى سينما ريفولى، حسب الكاتب الصحفى جمال الشرقاوى فى كتابه «حريق القاهرة» الذى يعد من أهم المراجع الموثقة عن هذا الحدث اللغز فى تاريخ مصر الحديث.. يذكر الشرقاوى: «انتشرت الحرائق لتغطى قلب القاهرة، ولتشمل كل المنطقة الواقعة بين ميدان الأوبرا شرقا والإسعاف غربا، وبين ميدان المحطة «رمسيس» شمالا وميدان الإسماعيلية «التحرير»جنوبا، ولتمتد أيضًا إلى الأطراف البعيدة من العباسية والظاهر شمالا إلى شارع الهرم جنوبا».
يؤكد الشرقاوى: «بين الساعة الثانية عشرةوالنصف تقريبًا نهارًا، والحادية عشرة مساء كانت النار التهمت 700محل وسينما وكازينو وفندق ومكتب ونادى فى شوارع وميادين الأوبرا- وشوارع، «إبراهيم الجمهورية» وفؤاد «26 يوليو»، وعدلى وقصر النيل وسليمان وعبدالخالق ثروت، وميدان مصطفى كامل وشوارع شريف ورشدى وجامع شركس والبستان ومحمد فريد وعماد الدين ونجيب الريحانى ومحمود بسيونى والبورصة الجديدة وتوفيق، وميدان التوفيقية وشارع جلال وشارع الملكة «رمسيس» وميدان الإسماعيلية «التحرى»، وشوارع الخديو إسماعيل «التحرير» والشواربى والفلكى ومحمد صدقى، وسكة المغربى والانتكخانة، وشامبليون والألفى، وميدان حليم باشا، وشوارع حليم باشا، وقنطرة الدكة، وميدان قنطرة الدكة، وشوارع كلوت بك، ودوبريه، وكامل صدقى، والظاهر، ومحمود فهمى المعمارى، وميدان باب الحديد، وشوارع المهرانى، والمهدى، وخليج الحور ومحمد على والأهرام».
ينقل الشرقاوى عن بيان النائب العام المنشور فى الصحف يوم 8 مارس 1952: «خلال هذه الساعات الكالحة أكلت النيران 300 محل بينها أكبر المحلات التجارية فى مصر كلها، و30إدارة ومكتب لشركات كبرى، 117 مكتب عمل وشقق سكنية، 13 فندقا كبيرا منها شبرد ومتروبوليتان وفيكتوريا، 40 دار سينما بينها ريفولى وراديو ومترو وديانا ومتروبول وميامى وهونولولو، 8 محلات ومعارض كبرى للسيارات، 10 متاجر سلاح، 73 مقهى ومطعم وصالة، منها جروبى والأمريكيين وجميع المطاعم والملاهى الممتازة، 92 حانة للخمور، 16 ناديا، منها أندية الترف كلوب ورمسيس ودار العلوم واليونانى ومحمد على والتحرير»، وبنك «باركليز»، وقتل 36 شخصا، وأصيب 552 بجروح، وتشرد عدة آلاف من العاملين فى المنشآت التى احترقت، قدر عددهم بمن يعولون من أسر بعشرين ألف نسمة، وقدر الخبراء الأجانب الخسائر المادية بأربعين مليون جنيه إسترلينى، وقدرها الخبراء المصريون بمائة مليون».
يتعجب الشرقاوى من أنه: «بينما كانت ألسنة النار ترتفع من معظم شوارع قلب العاصمة.. وبينما كانت أعمدة الدخان الأسود الكثيف تلون سماء القاهرة بلونها القاتم المقبض.. وبينما كانت الضجة والصخب تملأ أجواء البلاد، وبينما كان التوتر واضطراب الأعصاب يسيطران على كل إنسان فى مصر، فضلًا عن كل مسؤول عن أمن وسلامة الوطن، كان الملك فاروق رأس الدولة المصرية، والقائد الأعلى لقواتها المسلحة يقيم«عزومة»فاخرة، ضيوفها هم أنفسهم ضباط جيش مصر وبوليس مصر حماة أمنها وسلامتها، وكان ذلك أمرًا غريبًا بكل المقاييس.. لا تفسير له إلا أن يكون الملك مجنونًا فقد كل إحساس بالمسؤولية، أوأن يكون ضالعا فى مؤامرة حريق القاهرة، وأن هذه العزومة نفسها جزء من المؤامرة».
يذكر «الشرقاوى» وقائع مأدبة الغذاء التى أقامها فاروق ابتهاجا بمولوده أحمد فؤاد الذى صار ولى عهده.. يقول: «حضر جلالة الملك إلى القاعة التى تجمع بها الضباط.. صدحت الموسيقى بالسلام الملكى والجميع وقفوا يؤدون التحية للملك، قدم الفريق محمد حيدر بوصفه القائد العام للقوات المسلحة كبار المدعوين من الضباط إلى الملك، الذى صافحهم واحدا واحدا باليد، وكان عددهم 104 ضباط.. توجه الضباط إلى المائدة وجلس كل منهم فى مكانه..حضر الملك بعد أن جلس الجميع فى أماكنهم، وكان قد غادر القاعة إلى قاعة أخرى بعد أن سلم على كل كبار الضباط.. بدأ تناول الغذاء ثم الحلوى، ثم مر أحد الشماشرجية يحمل ولى العهد الرضيع، ويمر به على الموائد ليراه الضباط، وأعلن أنه يهدى ابنه أعز ما يملك..إلى الجيش.. تقديرا منه لجيش مصر».
يضيف الشرقاوى: «انتهت المسألة بنفس الصورة التى كان مقررا لها..الساعة الثانية والنصف، وكان شيئا لم يحدث- ولايزال يحدث-فى القاهرة».. ويتساءل: «كيف يمكن تقييم هذا السلوك من ملك تحترق عاصمة ملكه؟..ألم يرتكب جريمة حجب السلطة تماما ممثلة فى أجهزة الردع فيها- الجيش والبوليس- وفى وقت كانت فيه البلاد أحوج ماتكون لأن تظهر هذه السلطة كأقوى ما تكون لتواجه الجريمة وتمنع استفحالها..ألم يتسبب عمليا بالاستمرار فى المأدبة الملكية فى شل يد الحكومة شلا كاملا بحرمانها من كل قيادات البوليس «50 ضابطا»، بينهم كل الرئاسات العليا وكل مأمورى أقسام القاهرة–واضعًا إياها فى مركز العاجز أمام المخربين؟. ألم يقف هو نفسه وهو ملك البلاد موقفًا سلبيًا تمامًا، فلم يطلب من الحكومة أوالجيش القيام بعمل ما لمنع الكارثة؟. ما تفسير ذلك كله؟.