- أول كشف عن البردية كان فى العام 2012 وتخرج بمسألة زواج المسيح من إطار التخمينات والإشارات التى اعتمدت عليها رواية «شفرة دافنشى» إلى التصريح المباشر مكتوبة باللغة القبطية وتعود للقرن الرابع الميلادى وفيها عاتب المسيح الذين ينتقصون من قدر المجدلية وقال «إنها زوجتى التى أسكن معها»
-البردية بحوزة رجل فى أمريكا ولا يملك أية وثائق تثبت ملكيتها وهو ما يؤكد أنها خرجت من مصر بطريقة غير شرعية فلماذا لا تستعيدها «الآثار»؟
منذ ظهورها الأول صار الجميع فى انتظارها، قطعة من البردى ليست أكبر من حجم «كارت شخصى»، لكن ربما تصبح أخطر اكتشافات القرن العشرين، هكذا عرفها الفيلم الوثائقى الذى أنتجته الـ«بى بى سى»، وتذيعه الآن شبكة نت فيلكس واسعة الانتشار، الفاتيكان يتمنى أن تصبح مزيفة، لكى يتجنب سجالا مهولا وتشكيكا متوقعا فى العديد من الثوابت المسيحية، وحائز البردية يتمنى أن تتأكد أصليتها لكى يبيعها بمبالغ خيالية، وعلماء جامعة هارفرد يتمنون أن تتأكد أصليتها من أجل الحفاظ على سمعتهم التى غامروا بها، وأنصار حقوق المرأة يتمنون أن تتأكد أصليتها، لكى يتخذوها وسيلة للتأكيد على مظلومية المرأة عبر التاريخ وتجنى الرجل عليها، الطوائف المسيحية المغضوب عليها تتمنى أن تتأكد صحتها لكى يزعزعوا يقين الأغلبية، العالم كله فى الانتظار، فلماذا تقف مصر فى موقف المتفرج وهى صاحبة الحق الأول فى القضية.
نعم، ما يهمنى الآن هو مصر وحقها فى هذه البردية التى يقر الجميع بأنها مصرية الأصل والمنبت وربما الملكية أيضا، فما قصة هذه البردية؟ وما علاقة مصر بها؟ ولماذا أكاد أجزم بأنها مصرية الملكية وليس المنبت والمنشأ فحسب؟ هذا ما سنتناوله هنا، لكنى فى البداية وإن كنت سأتطرق إلى فحوى البردية ومحتواها، لا يهمنى هنا حقيقية المعلومة التى تؤكدها والتى تدعى مكتشفتها الأستاذة بجامعة هارفرد أنها ستقلب التاريخ المسيحى، ولا يهمنى أيضا أثبات أصليتها أو زيفها كما يريد البعض، يهمنى فحسب إثبات حق مصر فيها، فكل الشواهد التى تظهر فى الفيلم تقول إنها خرجت بطريقة غير شرعية من مصر، ويحيط بمالكها المزعوم الكثير من الغموض، كما أنها تفتقد لأية وثائق تثبت ملكية هذه القطعة له والقطعة تنضح بالمصرية من كل جانب.
قصة هذه البردية تبدأ فى العام 2010 فقد جاءت إلى الدكتورة كارين كينج المعروفة عالميا كمرجع رئيسى فى تاريخ المسيحية القديمة رسالة إلكترونية مفاجئة واتصل بها شخص، وقال لها إن يملك قطعة بردى قديمة ويريد منها أن تفحصها وما رأت صورة هذه البردية حتى شعرت بالصدمة، ولم تصدق ما تراه عينها.
وبحسب كارين كينج فإن البردية تحتوى على 33 كلمة، ولكنها تهدد بإعادة كتابة تاريخ المسيحية، وفيها يتحدث المسيح يتحدث بشكل مباشر عن «زوجته»، وينص الفيلم على أن هذه القطعة ملك «جامع تحف» مجهول الهوية، ولكنها وصلت إلى «كينج» وبدأت تحقيقا مذهلا مع زملائها لاكتشاف حقيقية أصلية هذه القطعة متى كتبت ولماذا كتبت؟ وما تلك الأنثى التى تذكر باعتبارها زوجة المسيح؟ ولماذا غابت هذه الرواية عن الأناجيل الأخرى؟
لكن قبل الشروع فى التحقيق فى هذه الأسئلة كان على «كينج» التثبت من أصلية البردية، ولذلك ذهبت إلى العالم روجر باغنال الذى يعد المرجع العالمى لعلم البرديات، ويشرح «بانغال» إن الديانة المسيحية قديما كانت مختلفة الشكل عما هى عليه الآن، فالمسيحيون كانوا جماعات صغيرة تلتقى فى الغالب فى المنازل والأناجيل التى نعرفها اليوم تمثل جزءا صغيرا من النصوص التى كانت كموجودة فى العالم القديمة، ووفقا للدلائل والإشارات التاريخية بانغال أكد أصلية البردية، ولغتها هى ما تؤكد معلوماتها فقد كتبت البردية باللغة القبطية القديمة.
نصت البردية على اسم المسيح صراحة، أما الزوجة المزعومة فقد ورد اسمها أيضا واضحا غير قابل للشك، وتشرح «كينج» هذه الجزئية فتقول إن اللغة القبطية القديمة، كانت تضع ضمير الملكية «تا» أمام كلمة «ساهيما» بما يعنى «زوجتى»، وتستطرد: الأناجيل الأربعة لا تذكر هذه القصة لكنها تؤكد لنا أن هناك فقط قد لعبت دورا أساسيا فى حياة المسيح الأولى هى «مريم العذراء» أمه، والثانية هى «مريم المجدلية»، وقد ذكر اسمها صراحة «ماريام» فى هذه البردية، وقد كانت مريم المجدلية شريكا أساسيا فى كل الأحداث المهمة فى حياة المسيح، فقد كانت موجودة عند الصلب، كما كانت موجودة كما كانت موجودة عند الدفن وكانت موجودة عند قيامة المسيح فى اليوم الثالث لدفنه، كأول شاهدة على القيامة
ونأتى هنا إلى السؤال المهم: من أى زمن أتت تلك البردية؟
يقول بانغال: هذه اللبردية تتمتع بميزتين بارزتين تحددان عمرها، الأولى هى شكل الحروف الكبيرة التى لا نجدها بعد القرن الرابع، والثانية هو خط اليد الذى اتخذ شكلا أكثر بروزوا بعد الخط الرابع، ولذلك يرجع «بانغال» هذه البردية إلى القرن الرابع الميلادى، وتحديدا ما بين عامى 350 و400 بعد الميلاد، وقد كتبت هذه السطور التى تحولت إلى أزمة كبيرة على ورق البردى المصرى على الوجهين، وهو ما يؤكد أنها كانت جزءا من مخطوط دينى أو فى الغالب «إنجيل»، ويشير العلماء صراحة فى الفيلم، وبناء على هذه الأدلة الأثرية التى لا تقبل الشك أن تلك القطعة أخذت من مصر.
هنا يأخذنا الشغف: ما الذى كتب نصا فى هذه البردية؟ تحاول «كينج» الإجابة فتقول: فى بداية القطعة جملة «أمى هى من منحتنى الحياة» ثم فى سطر آخر يقول إن «نكران جدارة مريم»، وهو ما يبدو وفق قراءة كينج جزء من سجال كان المسيح قد أجراه بين أتباعه الذين ينكرون جدارة مريم المجدلية، فقال لهم إنها مؤهلة لتكون تلميذتى ثم قال لهم «زوجتى»، وفى السطر الأخير يقول إننى أسكن معها، وتعتقد كينج أنها مريم المجدلية.
فى اعتقادى الشخصى أن المعنى هنا قد يستقيم إذا ما استخدمنا بعضا من الخيال لتكملة الفراغات، من أجل الظفر بسياق متماسك فربما تكون الفقرة قد كتبت كالتالى «إن أمى هى من منحتنى الحياة «لكن مريم المجدلية هى التى منحتنى الحب»، وأقول لمن ينكرون جدارة مريم المجدلية، إنها تلميذتى وزوجتى التى أسكن معها»، لكن بما أنه من غير المشهور فى الأناجيل الرسمية أن المسيح قد تزوج فقد حاول الفيلم الاستطراد تاريخيا لجعل الأمور أكثر منطقية، حيث يقول: إنه فى العام 312 ميلادية حدث تغير كبير فى تاريخ المسيحية، حيث أعلن الإمبراطور الرومانى «قسطنطين»، أن تلك الديانة ديانة قانونية معترف بها، بعد أن كان أتباعها يطاردوا باعتبارهم خارجين على القانون الرسمى والديانة الرسمية، وهو ما أسهم فى سرعة انتشار الديانة المسيحية بشكل كبير، حتى أن الطبقات الوثنية الكبيرة وجدت نفسها محاصرة بالمسيحيين من كل مكان، وكل طائفة تحمل أنجيلا معينا، وهو ما فطنت له الكنسية التى حددت ما هو معترف به وما هو جدير بالنفى أو الاستبعاد، وبالطبع كان من الأناجيل المستبعدة تلك الأناجيل التى تنفى عادة الرهبنة من الحياة المسيحية، هو ما دفع روبن جرافس جونز رئيس كنيسة فرسان لبمعبدالى القول، إن مثل هذا الاعتقاد بزواج المسيح جدير بأن يهدم العديد من الأعمدة الرئيسية فى الديانة، وهو ما سيؤدى إلى تبخر كل ما هو متعارف عليه.
لكن هل هذه هى المرة الأولى التى يحدث فيها أمر زواج المسيح هذه الجلبة؟ بالطبع لا، ولذلك يمنح الفيلم مساحة كبيرة لتلك الرواية التى هزت عرش اليقين ألا وهى رواية «شفرة دافنشى» التى ظهرت فى 2003 وباعت 80 مليون نسخة التى يدعى كاتبها أنه كتبها، اعتمادا على العديد من الأناجيل والدراسات التاريخية، بالإضافة طبعا إلى الخيال.
أين الخيال هنا تحديداً.. ومن أين أتى؟ الإجابة أيضا مصر
هنا تصحبنا الدكتور آن مارى لوريندايك إلى رحلة عبر صحراء مصر لتسلط الضوء على اكتشاف مذهل حدث منذ حوالى 70 عاما، وبالتحديد منذ 1945، حيث وجد المزارع «محمد على» فى نجع حمادى الوثيقة اعتمد عليها فيما بعد «دان براون» لكتابة روايته الشهيرة، فأثناء حفر «على» فى الجبل ما بين القبور القديمة، وجد جرة مغلقة من الفخار وبداخلها 13 كتابا ملفوفة بالجلد من ورق البردى تتضمن مجموعة ورقات لا تقدر بثمن لنص غير معروف من قبل، هذا النص هو ما عرف فيما بعد باسم أنجيل فيليب، ويعود هذا الإنجيل بحسب تعليق الفيلم إلى القرن الرابع الميلادى أيضا، وهو ما يفيد فى المقارنة بين الاكتشاف القديم والاكتشاف الحديث، وهو الآن محفوظ فى المتحف القبطى بالقاهرة.
نعم هذا الإنجيل الذى كان النقطة الأساسية التى ألهمت دان براون بعمل روايته التى أصبحت من أكثر الروايات شهرة فى العالم التى صنع منها فيما بعد فيلما حقق معدلات قياسية فى المشاهدة موجودا هنا فى القاهرة، وغالبيتنا لا تعرف عنه شيئا، وفى هذا الإنجيل مكتوب ما هو أشد دهشة.
تقول ترجمة الورقة التى عرضت فى الفيلم بحسب تعبير « لوريندايك» ما يلى:
«وبرفقة جزء مقطوع توقعت الباحثة أن يكون الرب، مريم المجدلية التى كان يحبها أكثر من بقية تلاميذه، وكان يقبلها على.. جزء مفقود أيضا».
لماذا إذا اختف مريم المجدلية من الأناجيل الرسمية، تجيب كينج «لأن وجود أمرأة بمثل هذه الحيثية كانت ستتحول بمرورالأيام إلى أكبر الأسس التى تخول للمرأة اعتلاء مناسب الكنسية، ولأنها وجدت فى عصر ذكورى تم إقصاؤها، لكى لا تزاحم الذكور بالنص صراحة على أنها كانت «عاهرة».
هل انتهت الوثائق التاريخية التى ترسم لمريم المجدلية دورا آخر غير أنها كانت «مومس» وتابت على يد المسيح؟ الإجابة لا أيضا، والإجابة أيضا تأتى من مصر فقبل حوالى قرن من الزمن اكتشف عالم آثار ألمانى إنجيلا آخر فى مصر محفوظ الآن فى المتحف المصرى فى برلين بعنوان «إنجيل مريم».
وتشرح الدكتورة فيرينا ليبر، مسؤولة قسم البرديات فى متحف برلين ما يوجد فى هذا الإنجيل فتقول، إنه يسرد قصة تقول إنه بعد موت المسيح رأت مريم المجدلية رؤيا بأن المسيح جاء لها ومنحها بعض التعاليم التى يجب أن تعلمها للتلاميذ عن تحرير الروح ودحر الشر، وحينما ذهبت إلى التلاميذ، لكى تعلمهم ما تعلمته من المسيح ثاروا عليها متسائلين لماذا يأتى المسيح إليك ولا يأتى إلينا؟ هل أنت أفضل منا؟ فبكت مريم، وقالت: هل تعتقدون أننى أكذب عليكم؟ وهنا تقدم تلميذا آخر هو «لاوى»، وقال: اسمع يا بطرس أنت تغير منها فالمسيح أحبها أكثر منا بالفعل.
هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ لا لم ينته، فيوجد أيضا نسخا من «إنجيل مريم» فى مكتبة جامعة أكسفورد، أتت أيضا من مصر ويرجع تاريخها إلى القرن الثانى الميلادى أى إلى وقت أسبق من إنجيل متحف برلين بثلاثة قرون، وبحسب الدكتور ديرك أوبينك مسؤول هذا القسم فى «أكسفورد»، فإن ما تم إحصاؤه من هذه الأناجيل لا يتعدل الـ 1% مما تحتويه المكتبة، وعلى حد قوله فإن هناك العديد من الصناديق التى لم يتم فتحها من أن أتت من مصر منذ ما يقرب من قرن، وما تم فحصه فقط هو خمسة آلاف وثيقة من أصل نصف مليون وثيقة أتت كلها من موقع حفائر «أوكسيرينخوس».
قولا واحدا، يؤكد كل العلماء الذى استضافهم الفيلم إن البردية مصرية، وأنها أتت من صعيد مصر، وصاحب البردية ادعى أنه اشتراها من وسيط آخر، وعرض على كينج وثائق تؤكد فحصها فى عام 1982 فى ألمانيا على يد الدكتور بيتر مونرو، أما غير هذا فلا يوجد معه أى سند ملكية، وهو ما يعنى أنها تم تهريبها من مصر، وأنها خرجت بطريقة غير شرعية، وهو ما يلمح إليه الفيلم فى أكثر من مناسبة، والسؤال هنا هو لماذا لا نطالب بعودة هذه البردية إلى مصر؟ لكن قبل أن نطرح هذا السؤال علينا أن نسأل: هل يحق لنا أصلا أن نطالب بها؟
الإجابة هى نعم، فقانون 1951 لحفظ الآثار الذى كان معمولا به وقتها يمنحنا هذا الحق، كما أن اتفاقية اليونسكو لحماية التراث التى وقعتها مصر و188 دولة فى العالم تمنحنا الحق أيضا، وقد سبق أن أعادت مصر إنجيلا مشابها لهذا الإنجيل، سواء من حيث المحتوى الشائك أو من حيث طريقة الخروج، وهذا الإنجيل هو إنجيل يهوذا الكائن الآن فى المتحف القبطى بالقاهرة الذى يدعى أن يهوذا كان أقرب أتابع المسيح إليه، وأنه وشى به بالاتفاق مع المسيح نفسه، وقد كان هذا الإنجيل قد هرب إلى أمريكا لكن وزارة الثقافة أعادته فى منتصف 2010 حينما كان الوزير فاروق حسنى يتولى الوزارة وزاهى حواس يترأس المجلس الأعلى للآثار.
لا يجب هنا أن نغفل أن ظهور هذا الإنجيل الجديد لم يمر مرور الكرام، فقد اتهمته صحيفة الفاتيكان بأنه إنجيل مزيف، بل وسخرت من الوثيقة وقالت إنها مزيفة تم الإعلان عنها فى مجتمع إعلامى كبير لرفع سعرها، بينما ثلاثة أساتذة من أكبر جامعات العالم يراهنون بسمعتهم العلمية على أصلية هذه البردية، مؤكدين أنها أهم مستند على وجه الأرض، وحتى وقت تصوير الفيلم، كان الجميع بانتظار تحليل كربون 14 للبردية وقياس الطيف الكمى للحبر، لإضافة عامل من عوامل التأكيد بأصلية البردية.
تساءل الفيلم عن كل الأسئلة الممكنة أين وجدت البردية؟ هل هى أصلية أم مزيفة؟ هل تنص صراحة على مريم المجدلية أم لا؟ هل يوجد شبيه لها أم لا؟ هل تعيد اكتشاف التاريخ أو تعيد كتابته؟ هل تؤثر فى العقيدة المسيحية أم لا؟ هل تعود إلى القرن الأول أم الثانى أم الثالث أم الرابع أم أنها نسخة حديثة أصلا؟ هل الكتابة قديمة والبردية جديدة، هل البردية قديمة والكتابة حديثة؟ هل وهل وهل.. لكن أحدا لما يسأل: من صاحب الحق فيها؟ ومن يحق له امتلاكها؟ بينما صاحبة الحق «مصر» غائبة عن المشهد، ولهذا أتوجه بنداء للدكتور «خالد العنانى» وزير الآثار من أجل المطالبة بهذه البردية وإعادتها إلى مصر.