سافر الشيخ سيد النقشبندى من طنطا حيث يقيم إلى القاهرة يوم الخميس، ليبيت عند أخيه سعد فى العباسية بالقاهرة، ثم يذهب فى اليوم التالى الجمعة إلى التليفزيون للتسجيل، وحسبما يروى ابنه «أحمد» لمجلة «صباح الخير-23 يونيو 2015»: «فجأة طلب من أخيه سعد ورقة وقلما، وكتب فيها وصيته،وأعطاها لأخيه وأوصاه ألا يفتحها إلا بعد الوفاة، ولم يستطع الشيخ ليلتها النوم لشدة الألم فى صدره، وفى صباح الجمعة، حاول الاتصال بالتليفزيون للاعتذار، لكنه لم يتمكن، فتوجه إلى المسجد، وأدى القراءة وهو مرهق، وسجل الأذان بصوته للمرة الأولى، وهو الأذان الذى نسمعه حتى اليوم، وبعد التسجيل زار معظم أهله فى القاهرة كأنه يودعهم، وكذلك زار أهله فى طنطا التى وصلها عند المغرب، وفى صباح السبت 14 فبراير - مثل هذا اليوم- 1976 استيقظ من نومه، وطلب طبيبه، وذهب إلى مستشفى المبرة لإجراء فحوصات، وقبل أن يبدأها نطق الشهادتين، وفاضت روحه الكريمة إلى بارئها، وفتح أخوه الوصية، وكان فيها: «الدفن بجوار الوالدة بالقاهرة مهما كانت الظروف، لاداعى للمآتم إطلاقا، ويكفى النعى بالجرائد»، ومن جامع السيد البدوى بطنطا، خرج جثمانه يشيعه آلاف من محبيه وعاشقيه، فى طريقه إلى القاهرة، ليدفن بجوار والدته».
كان عمره وقت وفاته 55 عاما إلا شهراً.. مواليد «7يناير 1920» بقرية «دميرة» محافظة الدقهلية، ووفقا لزياد عساف فى كتابه «المنسى فى الغناء العربى»: «انتقل مع الأسرة وهو فى السنوات الأولى من عمره إلى «طهطا» بسوهاج.. وفى طفولته كثيرا ما كان يجلس فى حلقات الذكر بين مريدى الطريقة النقشبندية، نسبة إلى والده الشيخ محمد النقشبندى شيخ الطريقة، فحفظ القرآن، وتعلم الإنشاد الدينى منذ بواكير طفولته، وبعد أن أصبح شابا يافعا استقر فى مدينة طنطا، وذاعت شهرته، وأقام أمسيات دينية فى دول عربية كثيرة، مقدما صورة مشرقة فى توظيف الفن لخدمة الدين الإسلامى».
بالرغم من جمال وعذوبة وقوة صوته الاستثنائى، إلا أنه التحق بالإذاعة والتليفزيون عام 1966 بالمصادفة..يذكر «عساف» أن المذيع مصطفى صادق كان يبحث عن فكرة للدورة البرامجية الإذاعية الرمضانية، فقادته قدماه إلى الليلة الكبيرة لمولد السيدة زينب، أسره ذلك الصوت الجميل القادم من إحدى الزاويا، اصطحبه إلى الإذاعة وقدمه للإعلامى الشهير «بابا شارو» الذى قدم له عرضا بأن يسجل أدعية دينية بصوته يتم بثها بعد أذان الإفطار فى رمضان كل يوم مباشرة.. استمع الناس إليه من إذاعة البرنامج العام، وأصبح صوته من أهم مظاهر شهر رمضان»، غير أن ابنه أحمد، يؤكد لمجلة «صباح الخير»، أن أول تسجيلات لوالده بتاريخ 1957، وكانت فى سوريا عام 1956 كان يؤدى مناسك الحج، والتقى بسوريين، بينهم الشيخ الجليل «محمد على المراد»، وتعرف عليهم الشيخ، وحينما عاد إلى مصر دعاه الشيخ «المراد» لسوريا، وفى العام التالى، لبى الشيخ الدعوة، وأقام فى مدينة حماة، وصدح فيها بأناشيد وابتهالات، سيطرت على عقول السوريين وقلوبهم، فأحبه السوريون حبا جما، ومن سوريا استقل الطائرة لأداء مناسك الحج للمرة الثانية، ومن الحجاز طار إلى الدوحة، يشدو بأعذب الابتهالات، حتى عاد إلى القاهرة ..يقول «النقشبندى الابن»: «كانت فترته فى سوريا كافية لكى تخلب قلوب السوريين، ويعشقون صوته، فقام هناك بتسجيل العديد من الأشرطة، وحتى الآن يأتينا منها تراث للنقشبندى لم نسمع به من قبل».
يؤكد «أحمد» أن مكتبة والده لم تكن دينية كما يتوقع المرء مع شيخ يمارس الابتهال والإنشاد، ولكنها متنوعة، فيها شوقيات أحمد شوقى، وديوان حافظ إبراهيم، وكتابات العقاد، وطه حسين، والمنفلوطى، ورحلات أحمد حسين رئيس الديوان الملكى فى عهد الملك فاروق، كما كان مغرما بالشعر، حتى إنه حفظ أكثر من 10 آلاف بيت شعر، لكنه نادرا ما كان يكتب ابتهالاته بنفسه، وإنما أنشد للعديد من الشعراء، ولتذوقه الكلمات كان يعدل فى بعض الألفاظ، ومن الشعراء الذين تعامل معهم الشاعر «عبدالفتاح مصطفى»، ولحن بليغ حمدى كلماته، منها «مولاى إنى ببابك قد بسطت يدى» و«أقول أمتى.. يا رب أمتى» و«ما أعظم الذكرى.. فى بدر الكبرى» و«رباه يا من أناجى».. يذكر «عساف» أن «بليغ» خرج عن النمط التقليدى فى تلحين الأغنية الدينية له، وأدخل الأورغ والجيتار، ويضيف: «غنى لملحنيين مشهورين مثل محمد الموجى، سيد مكاوى، حلمى أمين، سيد مكاوى، إبراهيم رجب، أحمد صدقى، محمود الشريف».
وصفه ابنه «أحمد» بأنه كان جليلاً، تربى على القرآن الكريم والإنشاد، فاستقام لسانه، وقلبه، وكل جوارحه من هذا النبع الصافى الجليل، فتخلق بخلق الصالحين، ويؤكد: «كان يسجل يومياته يوما بيوم، يسجل فيها «فى أى قرية ينشد، وأى اجتماع حضر، وأى خاطرة ترد على عقله»، ويؤكد أنه جمع له ثلاثًا وثلاثين مذكرة، تغطى ما كتبه منذ 1943 وحتى وفاته 1976.
يؤكد، إن والده لم تكن له علاقة خاصة بالرئيس عبدالناصر، لكنه افتتح له بعض المؤتمرات، وكانت علاقته قوية مع الرئيس السادات، وحينما تقابل الاثنان لأول مرة، قال له السادات إنه من عشاقه، وأنه حينما كان مسافرا ذات مرة إلى السويس، تصادف مولد سيدى الغريب، فاستمع إليه، ولم يغادر مكانه إلا مع نهاية الإنشاد، وبعد أن تولى الرئاسة، كان يتصل بصديقه الطبيب محمود جامع فى طنطا، ليأتىبه، إلى «ميت أبوالكوم»، وهناك ينشد.