كان عبدالقادر محمد شحاتة «عضو الجهاز السرى لثورة 1919» يجلس فى قهوة بنادى محمد على بميدان «باب الخلق» بالقاهرة، يلعب الطاولة مع الشيخ محمد يوسف الطالب بالأزهر، وفقا لمذكراته التى ينقل منها الكاتب الصحفى مصطفى أمين فى كتابه «الكتاب الممنوع - أسرار ثورة 1919»، مضيفا: «أقبل شاب متوسط الطول، قمحى اللون، وقدمه الشيخ لى باسم «الأخ فهمى»، وجلس فهمى، فتحدث حديثا ثم انصرف، وبعد ذلك فوجئت بفهمى هذا عدة مرات».
كان اليوم الذى التقى فيه «شحاتة» مع «فهمى» لأول مرة هو بداية الطريق لواحدة من الحكايات المجهولة فى تاريخ ثورة 1919، وهى قصة «دولت فهمى»، تلك الفتاة التى قتلها أهلها ثمنا لدور وطنى قامت به يكشف عنه «شحاتة» فى مذكراته، ويجعلها «أحمد مراد» إحدى أبطال روايته «1919» مع «شحاتة»، ويستلهم الواقعة الحقيقية لقصتهما معا ويضعها فى قالب درامى روائى، كما قدمتها المخرجة إنعام محمد على والسيناريست عصام الجمبلاطى فى سهرة تليفزيونية عام 1987 بعنوان «دولت فهمى التى لم يعرفها أحد»، بطولة ممدوح عبدالعليم وسوسن بدر.
يتذكر «شحاتة» قصة ضمه إلى الجهاز السرى للثورة، والذى قاده عبدالرحمن فهمى، أن الأخ فهمى «ليس عبدالرحمن فهمى»، وثق به بعد أن تعدد اللقاءات معه، حتى قال له: «أعرف أن الشيخ محمود أبوالعيون كلفك بمهمة خطيرة فى الصعيد فى أول أيام الثورة، وهى توزيع منشورات والقيام بحركة فى المنيا، وأعرف أيضا أنك الذى نشطت الثورة فى المنيا، وأنه حكم عليك من المجلس العسكرى البريطانى فى «الواسطى» بضرب النار، وأعرف أيضا أن الذى هربك هو خليل حافظ حكمدار المنيا متحديا قرار السلطة البريطانية.. فهل تقبل أن تكون عضوا فى الجهاز السرى للثورة؟ قلت له: نعم.. وأقسمت اليمين بحفظ السر.. ثم عاد وقال لى: هل أنت مستعد للموت فى سبيل مصر فى أى وقت؟.. قلت: «نعم»، يضيف شحاتة: «تكررت المقابلات، وذات يوم قال لى: انتظر تعليمات هامة غدا.. وفى اليوم التالى جاء «الأخ فهمى»، وقال: «ألقينا قنبلة على إسماعيل يسرى وزير الأشغال والحربية، فاستقال فزعا، وكان رئيس الوزراء يوسف وهبة سيستقيل لأن أحدا لم يجرؤ على قبول منصب وزير الأشغال لتنفيذ مشروعات الإنجليز فى السودان، وفوجئت الثورة بأن محمد شفيق باشا قَبِل أن يكون وزيرا للأشغال والحربية والزراعة، فقررت قيادة الثورة قتله، وأجريت القرعة فى الجهاز، فكان من نصيبك».
يؤكد «شحاتة»: «قلت: مستعد.. قال فهمى: القنابل الجاهزة الآن، والتى قرر الجهاز السرى استعمالها هى «نيتروجلسرين»، تنفجر فى الهواء، وتصيب من يلقيها، وحدث قبلها بأسبوعين أن كلفنا أحد الأشخاص بإلقاء قنبلة على «إسماعيل سرى» من هذه القنابل، فأصيب زميلنا.. فهل أنت مستعد للموت فى هذه المهمة؟.. قلت: نعم.. أنا على أتم استعداد».. يتذكر شحاتة: «فى اليوم التالى حضر فهمى، وذهبت معه لمعاينة المكان الذى اختاره الجهاز السرى للثورة لإلقاء القنبلة على وزير الحربية والأشغال، وهو عبارة عن ميدان بسيط وبه مراحيض عامة بالعباسية فى طريق مصر الجديدة، وحدد لى الشوارع الممكن أن أهرب منها إذا نجوت من القنبلة ومن حرس الوزير، ثم صحبنى إلى خرابة فى حارة مؤدية إلى شارع النزهة، وقال: «ستلقى ملابس التنكر والمسدسات فى هذه الخرابة، وإن عضوا من الجهاز سيأخذها من هناك ويخفيها على الفور، والخطة وضعت على أساس أنه قبل أن تصل سيارة الوزير، سيسبقها مباشرة موتوسكيل يركبه أحد رجال الجهاز السرى، ثم يلقى هذا الشخص جريدة على الأرض أمامك كأنها وقعت منه مصادفة لتعلم أن السيارة التى خلفه هى سيارة الوزير، وذكر لى أننى سأتنكر فى زى طباخ، وبعد ارتكاب الحادث أخلع ملابس الطباخ وأرميها فى الخرابة، ثم أمشى كشخص عادى، وأعود إلى بيتى».
تحدد موعد العملية يوم 19 فبراير 1920 لكنها لم تتم، ثم تحدد اليوم التالى موعدا لكنها لم تتم، حتى حدد «الأخ فهمى» لشحاتة يوم 22 فبراير- مثل هذا اليوم- 1920، وبالفعل تم التنفيذ.. يتذكر شحاتة: «ارتديت ملابس عامل العنابر وهى ملابس كلها زيت، ووقفت فى نفس المكان المحدد، وجاءت السيارة الوجيهة وقدم لى السائق القنبلة فى علبة ورق كبيرة، وفى العلبة مسدسات كى أستعملها فى حالة الدفاع عن النفس، ثم جاء موتوسكيل الإشارة، وألقى الجريدة أمامى، وأقبلت سيارة الوزير فألقيت القنبلة، وأحدثت دويا هائلا وملأت الميدان جميعه بالدخان، ولم أتبين شيئا فى الدخان، وسمعت صوتا يقول: «قتلتنى ياابن الكلب»، واعتقدت أن الوزير أصيب، وذهبت إلى طريق النجاة المرسوم فى الخطة، فجاء خلفى عسكرى من حرس الوزير على موتوسكيل، فأطلقت عيارا ناريا فى الهواء فرجع، ومضيت فى طريقى حتى وجدت الخرابة، فخلعت ملابس العمال، وألقيت بها هى والمسدس الذى أطلقت منه الرصاص، وأبقيت على المسدس الثانى، ومشيت فى طريقى شخصا عاديا حتى وصلت إلى شارع النزهة».. وتواصلت التحقيقات فى اليوم التالى التى ستقود إلى «دولت فهمى».