أيقظت حرم خالد محيى الدين، زوجها الساعة السادسة مساء يوم 27 فبراير– مثل هذا اليوم–عام 1954، لتبلغه أن الراديو يذيع نبأ عودة محمد نجيب، حسب مذكراته «الآن أتكلم».. مضيفا:«قلت مش معقول، نحن لم نصل بعد إلى قرارات حول هذا القرار.. ارتديت ملابسى وذهبت إلى مقر قيادة، وهناك سمعت القصة من صلاح سالم».
كان خالد فى منزله بعد سلسلة أحداث مرهقة فرضتها استقالة«نجيب»التى تقدم بها إلى مجلس قيادة الثورة يوم 23 فبراير1954.. يؤكد:«تعب الجميع، ثلاثة أيام من الاجتماعات المتصلة ليلا ونهارا أرهقت الجميع، الساعة أوشكت على الثانية بعد الظهر، وتقرر أن يرفع الاجتماع لعدة ساعات ليرتاح الأعضاء، ثم يعودوا لمواصلة النقاش، وقال عبد الناصر:أنا سأبقى هنا، وفوضونى فى التصرف عند الضرورة فى حالة غيابكم».
حسب عبد العظيم رمضان فى كتابه «عبد الناصر وأزمة مارس 1954» : «كانت هذه الاستقالة هى المفجر الحقيقى لأزمة مارس 1954»، وفيما يراها «بداية الطريق للاستبداد»، يراها أحمد بهاء الدين، الحدث الذى نقله من معارضة ثورة 1952 إلى تأييدها، ويذكر فى مقدمته لكتاب«المثقفون وعبد الناصر» للدكتور مصطفى عبد الغنى : «كانت هذه اللحظة التى حددت أكثر المواقف، وفرقت بين فهم كل مثقف عن غيره، وحددت مصائر كثيرة، لقد رأينا من كان مع الثورة وغير رأيه بعد 1954، ففى جيلى كان أول ما قرأنا أن هؤلاء الضباط ناس كعسكر أمريكا اللاتينية، سيقومون بحكم عسكرى، وتبقى الأوضاع كما هى.. هناك بعض الصحف التى أيدت الثورة على أساس أنها ستسهم فيما فشل فيه الملك فى تحقيقه، ففى الشهور الأخيرة قبل قيام الثورة، أثبت الملك فشله الذريع فى كل شىء، وأمام كل الفئات، وحين جاءت الثورة، وأسقطت الملكية اعتقدت أن هذه الحركة جاءت لتدعيم النظام الذى أصبح القصر عاجزًا عن تدعيمه، ولكن بعد أزمة 1954 بقليل كان موقفى من الثورة يحتاج إلى مراجعة..الثورة التى بدأت بشكل عملى عام 54 لم تأت بالسلبى دائما، ونحن لانستطيع الآن أن نحاكم فترة سابقة بقوانين مرحلة أخرى».
يتذكر «محيى الدين» أن حين ذهب إلى مقر قيادة الثورة عرف من صلاح سالم قصة إذاعة خبر عودة «نجيب».. قال صلاح، إنه بعد أن فض الاجتماع ركب سيارته، لكنه خشى أن يتوجه إلى بيته فى العباسية، فالناس هناك وأصحاب المحلات يعرفونه وخشى أن يحتك به أحد أويهاجمه، فتوجه إلى بيت جلال فيظى أمام محطة باب اللوق ليستريح هناك، وفى الطريق وجد الشوارع مملوءة بالمتظاهرين المتجهين إلى ميدان عابدين، وهم يهتفون بحياة نجيب وبأنه «لا رئيس إلا نجيب»، وكانت المظاهرات عارمة، وتوحى برفض جماهيرى واسع لقرار قبول الاستقالة»..
يضيف خالد: «اهتز صلاح سالم كعادته، وكعادته أيضًا تغيرت مشاعره، وتغير موقفه بسرعة، فدخل إلى أجزاخانة مظلوم بالقرب من ميدان عابدين وتحدث تليفونيًا مع عبد الناصر قائلا: ياجمال لازم تأخذ قرارا بسرعة بعودة نجيب، فالناس تهتف بحياته، وقال له جمال: تعال فورًا».
يضيف خالد، أن صلاح سالم عندما عاد ألح على عبد الناصر.. وكان عبد الناصر صامتا، قال صلاح: يا جمال موعد نشرة الأخبار قرب، ولابد أن أبلغهم فورا بإذاعة خبر عودة نجيب، وإلا فإن البلد ستثور ضدنا، ولم يرد جمال، عاد صلاح سالم ليلح، وصمم جمال على الصمت، أمسك صلاح بالتليفون وطلب الإذاعة، وقال: يا جمال أنا سأبلغ الخبر للإذاعة، ولم يرد فكررها عليه أكثر من مرة، فلما واصل جمال الصمت..قال بصوت مرتفع ليسمع كل من فى الغرفة ومنهم عبد الناصر طبعا.
نص البيان الذى أذيع فى الإذاعة: « حفاظا على وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة الرئيس اللواء محمد نجيب رئيسا للجمهورية، وقد وافق سيادته على ذلك»، وتزامن مع مظاهرات الشارع،حالة غضب فى سلاح الفرسان، ويروى محمد نجيب فى مذكراته « كنت رئيسا لمصر»، أنه فى فجر«27 فبراير»قام من نومه على صوت نقر على شباك غرفة نومه، فطلب من الطارق أن يحضر من الباب الأمامى، فوجد ثمانية ضباط من شباب سلاح الفرسان على رأسهم الصاغ خالد محيى الدين، وقالوا له، إنهم عقدوا فى سلاح الفرسان اجتماعا عاصفا حضره جمال عبد الناصر، اعترضوا فيه على استقالتى، وأصروا على عودة الديمقراطية».
يكشف على عشماوى آخر قادة التنظيم السرى لجماعة الإخوان، فى مذكراته الصادرة عن «مركز ابن خلدون– القاهرة»، أن الجماعة كان لها الدور الرئيسى فى تنظيم هذه المظاهرات، ويؤكد: « تم ترتيب مظاهرة فى القاهرة، واستدعينا جميعا للاشتراك فيها والترتيب لها، وكانت هناك أصوات كثيرة تنادى بوجوب تسليح المجموعات داخل المظاهرة للرد على أى اعتراض من الحكومة، فقد كانت المشاعر ملتهبة خاصة بعد حل الجماعة «14يناير 1954»، والقبض على مجموعة منهم، لكن تقرر أن تكون المظاهرات سلمية وبدأت من جامعة القاهرة».
وتواصلت المظاهرات يوم 28 فبراير، فماذا حدث فيها؟