اعتقلت الشرطة المصرية سيدات بتهمة الهتاف ضد وزارة إسماعيل صدقى، فى يوم إجراء الانتخابات النيابية، وبالرغم من أن الهتافات كانت فى مكتب أحمد محمد أغا المحامى، حسبما يؤكد صبرى أبوالمجد فى الجزء الأول من كتابه «سنوات ما قبل الثورة»، إلا أن نيابة الوايلى قدمتهن للمحاكمة أمام جلسة مستعجلة عقدت مساء اليوم نفسه، بمحكمة جنح الوايلى، وقضت بتغريم كل واحدة خمسة جنيهات عن التظاهر، والبراءة من تهمة الهتاف ضد الوزارة، فاستأنفن الحكم، ونظرت المحكمة الاستنئاف يوم 5 مارس- مثل هذا اليوم- 1932.
تعد هذه القضية من الصفحات المضيئة لنضال المرأة المصرية، وتعد مرافعة مكرم عبيد، فى الاستئناف دفاعًا عن المتهمات نموذجًا رفيعًا فى الأدب السياسى والقانونى، وحسب أبوالمجد فإن المرافعة كانت أمام جماهير غفيرة امتلأت بها دار المحكمة واحتشدت خارجها وداخلها، ولم تكف عن الهتافات العدائية ضد إسماعيل صدقى، وحضرت المتهمات: حرم إبراهيم بك نور الدين، حرم حسين نبيه بك، فاطمة أحمد كمال بك، دولت الزينى، نعمت عباس، زينب عباس، حسنة شعبان القبانى، جليلة البحراوى، زينب لبيب، شريفة عيسوى، هينة نيازى، نعمية عوض سليمان، عزيزة سامى، ليزا ميخائيل مقار، جميلة رشوان، عريفة محمود طلعت، ولم تحضر الآنسة ليزا مقار، والسيدة جميلة الجمال لمرضهما.
يذكر أبو المجد، أن النيابة طالبت بتشديد العقوبة، وقالت: «الذنب ليس ذنبها، وإنما ذنب حضرات السيدات اللاتى زججن بأنفسهن أو زج بهن فى الطرقات يتظاهرن كأبسط غلمان الشوارع، وتحريضهن على المظاهرات والقانون لايفرق بين الجميع».. بدأ «عبيد» مرافعته قائلا: «عاهدت نفسى احتراما للقضاء المقدس واحتراما لهؤلاء السيدات الطاهرات، أن أكون هادئا فى هذه المرافعة، ولكن النيابة شاءت غير هذا، شاءت أن تستغل مركز الاتهام فتصب جام الغضب على سيدات من أشرف العائلات وأطهر البيوتات، فوصفتهن بأنهن كاذبات ومتطفلات، وأن عملهن مخل بالكرامة.. يا للهول، إن هذا شىء جديد فى قاموس الأدب وعرف اللياقة، أى إخلال بالكرامة فى إبداء عاطفة شريفة لا تتحرك فى نفوس الشريفات والأشراف، اسمحوا لى حضراتكم أن أقول إننى غير مستطيع الرد على هذا لأننى لم أجعل قاموس لغتى وأدبى شاملا ألفاظ السباب».
وأضاف عبيد: «ياحضرات القضاة: القضية المعروضة على حضراتكم هى أيضًا قضية سياسية، أو هى حلقة من سلسلة غير منقطعة من القضايا التى رزئت بها البلاد والمحاكم فى السنين الأخيرة، ولقد كانت السياسة تلعب فى كل قضية دورا نحسبه غريبا فى نوعه، فلا يلبث الغريب حتى يتضاءل أمام ما هو أغرب فى القضية التى عليها السياسة أفانينها وألاعيبها، فتحرك الرجال وأشباه الرجال كما تحرك الدمى والصور، وتبرز للناس أبكى المهازل، وهذه القضية نزلت السياسة فى خصومتها إلى حد محزن ومخجل معا، فهى خصومة مرزية ليس فقط بمصريتنا نحن المصريين، أو بوطنيتنا نحن الوطنيين، أو بحريتنا نحن الأحرار، أو بكرامتنا نحن الكرام، بل برجولتنا نحن الرجال».
واصل عبيد: «انظروا إلى الواقعة كيف وقعت، وإلى الخصومة كيف نشبت، عشرون سيدة من أشرف وأكرم السيدات والأوانس المصريات، اللواتى تفتخر بمثلهن مصر والبلاد الشرقية جمعًا، اجتمعن فى يوم الانتخاب بمكتب الأستاذ أحمد أغا المحامى، القريب إلى لجنة الانتخاب فى قسم الوايلى، لمشاهدة ما بلغهن من إجراءات الحكومة فى الانتخابات، فلما رأين بأعينهن كيف كان الناخبون وغير الناخبين ينتزعون من الشوارع والبيوت ويساقون فى اللوريات المسلحة رغم أنوفهم ليمثلوا مهزلة الانتخاب أوحرية الاختيار كما أرادت الوزارة أن تفهمها، أخذتهن نشوة الحق وصيحته، فهتفن بحياة دستور الأمة الحق وبسقوط الانتخابات الزائفة الباطلة».
واستطرد «عبيد»: «رأت السيدات عمال الوزارة متلبسين بالجريمة ضد القانون والدستور والوطن، وأدركن أن الانتخابات تزييف لإرادة الأمة فتسلم مصر غنيمة باردة للغاصب بيد نفر من أنباء البلاد، رأين كل ذلك فصاحت مصر المعذبة بألسنتهن صارخة، مستغيثة، هاتفة، غاضبة.. فماذا كان من أولئك الرجال الأشداء، كان منهم أن فزعوا إلى معقل الأعداء الحصين بصدور النساء واقتحموه والعصى الغليظة والدروع الحديدية بأيديهم، والخوذات الفولاذية على رؤوسهم والمسدسات فى جيوبهم والهلع فى قلوبهم، ولم يكتف أولئك بمحاصرة السيدات كأنهن أسيرات، أو بالقبض عليهن كأنهن مجرمات، بل امتدت ألسنتهم إليهن بالسب، وأيديهن عليهن بالضرب، وكن كلهن من فضليات الأمهات والعقائل والكريمات، فهذه زوجة وتلك بنت المستشار أو لواء فى الجيش، أو شيخ، أو نائب محترم، أو موظف كبير، أو طبيب أو معلم أو محام أو ثرى وجيه فى قومه، بل كان لهن جميعا شرف الأنوثة وضعفها.. وأى رجل يحترم يرضى لنفسه أن يعتدى على تلك الأنوثة القوية بضعفها، المصونة بحشمتها ولطفها.. تلك هى الخصومة التى نعترض عليها، أما الخصومة السياسية الفكرية فالسيدات خير أهل لها وهن يرحبن بها ويتمسكن بها لأنها خصومة الحق والشرف، لاخصومة العنف والاعتداء».
يؤكد أبوالمجد، أن عبيد أسهب فى التطبيق القانونى مفندا جميع التهم طالبا البراءة، وخرجت السيدات المتهمات من مبنى المحكمة قاصدات بيت الأمة، وكانت السيارات التى تحملهن تشق طريقها بصعوبة بالغة».