كان لعمال عنابر السكة الحديدية فى مصر ومدينة قليوب بمحافظة القليوبية والمحامون الشرعيون الحضور الأكبر فى أحداث يوم 15 مارس، مثل هذا اليوم - 1919، وذلك ضمن أحداث الثورة التى اندلعت فى مصر منذ يوم 9 مارس إثر قيام سلطات الاحتلال الإنجليزى لمصر بالقبض على سعد زغلول وإسماعيل صدقى باشا وحمد الباسل باشا ومحمد محمود باشا، ونفيهم إلى مالطا.
وتعد شهادة الشيخ عبد الوهاب النجار، مفتش أول اللغة العربية بوزارة المعارف، أثناء هذه الثورة من الشهادات الثرية حولها، ويسجل يومياتها من مارس 1919 حتى 22 يونيو من نفس السنة، وفيها ما شاهده وما سمعه وتأكد منه، وصدرت بعنوان «الأيام الحمراء - مذكرات الشيخ عبد الوهاب النجار عن ثورة 1919»، عن «دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة».. وعن وقائع يوم 15 مارس يقول: «أصبحنا يوم السبت والحال واقفة والمواصلات معطلة، ولا يكاد المرء يجد مركبة غير مشغولة تقله من مكان إلى آخر، وإذا وجدت فى النادر، تقاضى حوذيها أجرة باهظة».
يضيف: «فى هذا اليوم علمنا باعتصاب عمال العنابر من المصريين، والمقلل من عددهم يذكر أربعة آلاف، والمكثر يذكر سبعة آلاف، وبدون هؤلاء العمال لا يتأتى للقطارات أن تسير أكثر من يومين، وعمد بعضهم إلى سلك الإشارات وتحويل المفاتيح فأتلفوه وعوجوا المفاتيح، وقطعوا شريط السكة الحديدية بالقرب من كوبرى إمبابة فتعطلت القطارات إلى الوجه القبلى، ينقل «النجار» ما عرفه عما سماه بثورة فى قليوب، قائلا: «قامت ثورة فى قليوب حركها خطباء المساجد، فقام أهل قليوب فى هذا اليوم مسلحين بالمعاول والفئوس والخناجر، ويمموا محطة السكة الحديدية، فأحسن ناظر المحطة، وطلب إليهم أن يمهلوه ريثما يأخذ النقود ويجمع الأوراق وغيرها، فقالوا ليس من همنا النقود فدع كل ش»ء فى مكانه، ودخلوا إلى مكان التلغراف فخربوه وقطعوا الأسلاك التلغرافية والتيلفونية وحاولوا حل قضبان السكة فلم يقدروا، فذهبوا إلى رئيس الدريسة «عمال إصلاح وإنشاء السكة الحديدية»، وأخذوا ثلاثة فحلوا بعض القضبان بالمفاتيح الحديدية الخاصة، وتعلموا منهم عملية التخريب، وأراد مأمور البوليس منعهم فأبوا عليه، وسار فى طريقه إلى المركز فأخرجوا المعتقلين، وهرب المأمور وخربوا حجرته».
يضيف النجار: «كان من عمل أهل قليوب أن خربوا طريق السكة الزراعية بأن أحدثوا به خنادق عميقة يتعذر على الأتومبيل اجتيازها لعلمهم أنها طريق السيارات التى ستأتى إليهم، ولما استغاث المأمور أرسلت السلطة عدة سيارات مسلحة، وأخرى تحمل الجند الإنجليز فارتطمت إحداها فى خندق من الخنادق فأصيب أربعة من الجند كانوا بها، فرجعت السيارات، ووجد أثناء ذلك قطار الأكسبريس الآتى من بورسعيد، فاحتبس بها لتعذر المسير، فهاجمه القوم نهارا جهارا، وطارت من مصر «القاهرة» طيارة إلى قليوب، ثم أرسلت السلطة قوة لإصلاح السكة الحديدية، فأصلحت..وعلمنا بعد ذلك أن محطة شبرا خربت وتوقف سير القطارات إلى قبلى وبحرى، وانقطعت المواصلات بين القاهرة والخارج بطريق السكة الحديدية، فأصلحت».
وعن «المحامون الشرعيون»، يذكرعبدالرحمن الرافعى فى كتابه «ثورة 1919»، أنهم قاموا بالإضراب فى هذا اليوم أمام المحاكم العليا الشرعية حين عقد الجلسة، ويؤكد: «حدث أخذ ورد بين الشيخ محمد ناجى رئيس المحكمة العليا، ونقيب المحامين الشيخ محمد عز العرب بك فى سبب التأجيل، وفى أثناء الحوار اقتحم المتظاهرون المحكمة، وأمروا القضاة والعمال بالخروج فتعطلت الأعمال، وتأجلت القضايا لعدم انتظام الجلسات، وجاء المتظاهرون بعربة رئيس المحكمة العليا ودعوه إلى ركوبها فركب فيها، وركب معه بعض المتظاهرين، وأحاطوه بالرعاية والاحترام، ونشروا علما مصريا على رأسه وأوصلوه إلى بيته سالما، ووقف العمل فى المحاكم الشرعية، وأغلقت أبوابها، وجاء على الأثر رجال البوليس، وكانت الجماهير محتشدة بالقرب من المحكمة فأطلق عليها البوليس العيارات النارية المملوءة بالرش والبارود وأصيب 12 غلاما فى أرجلهم».
واجهت سلطة الاحتلال البريطانى الموقف بتشكيل محكمة عسكرية، ويذكر الرافعى: «أخذت تنعقد منذ يوم» 15 مارس، واستمرت فى الأيام التالية تحاكم من يقبض عليهم فى المظاهرات، وأحكامها تصدر بالحبس أوالجلد، أو أيهما معا، أو الغرامة، ومن نموذج أحكامها أنها قضت بعقاب محمود أفندى زكى الميكانيكى بالحبس مع التشغيل شهرين، لأنه كان حامل العلم المصرى فى مظاهرة، وصالح رياض بالحبس مع الشغل ثلاثة أشهر، لأنه كان حامل العلم فى مظاهرة أخرى، وحمود مدكور من طلبة الأزهر بالسجن ثلاثة أشهر وجلده عشر جلدات، ومحمد حسن الصانع بالجلد خمس جلدات، وصادق حسن الصانع بالسجن شهرا وجلده عشر جلدات لكسرهم زجاج الشوارع، وحسن الفكهانى التاجر بالغورية بالسجن ثلاثة أشهر لتوزيعه منشورات باللغة الفرنسية، وحسن عبد الباقى التمرجى بجنيه غرامة أو السجن أحد عشر يوما لتمزيقه منشورا للسلطة العسكرية، ولما كثرت المظاهرات أنشأت القيادة العسكرية البريطانية محكمة عسكرية أخرى فى قسم الخليفة، ومحكمة فى بنها، وأخرى فى القناطر الخيرية».