استمر الحال على ما هو عليه يوم الأحد 16 مارس، مثل هذا اليوم، عام 1919، منذ أن بدأت الثورة يوم 9 مارس.. وذلك بتزايد أعمال العنف والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، وينسب عبد الرحمن فهمى قائد التنظيم السرى للثورة فى الجزء الأول من مذكراته «يوميات مصر السياسية» هذه الأعمال إلى «الرعاع».. يذكر فهمى أنه فى 16 الجارى «مارس»، أغار الرعاع فى منيا القمح على المركز، وأطلقوا سراح المعتقلين، وأخذوا بعدئذ يهجمون على المحطة، وكانت تخفرها شرذمة من الجنود، فاضطر الجنود إلى إطلاق النيران، فقتلوا ثلاثين وجرحوا 19، وهرب عدد ممن أصيبوا بإصابات بسيطة.
ويشهد الشيخ عبدالوهاب النجارفى كتابه«الأيام الحمراء»:«أصبحنا يوم الأحد 16 مارس،والحال على ماهى عليه من وقوف سير المواصلات غير أن خط الترام فى حى شبرا سيرت بعض قطاراته،كما سيرت القطارات فى شارع بولاق،وفى الطريق المؤدية إلى ميدان الألعاب بالجزيرة،وكانت الجنود الإنجليزية تحرس كل القطارات فى سيرها،والظاهر أن حراسة قطار الترام بالجنود الإنجليزية المسلحة أدخلت شيئا من الرهبة على قلوب الناس».. يضيف«النجار»أنه زاد فى ابتعاد أكثر الناس من الركوب فى الترام أنهم كانوا يعتبرون مقاطعته عملًا وطنيًا، وبمعنى أوضح مقاومة سلبية،ومن الغريب أن الناس يعرضون عن ركوب الترام من أنفسهم بدون دافع من الطلبة الذين اعتادوا أن يكونوا دعاة فى مثل هذا الأمر،وقد طما سيل الأخبار من كل ناحية وصقع.. فمن هذه الأخبار أن محطة الحوامدية أحرقت، ومحطة البدرشين.. وأفلت زمام التدبير من يد العقل وصار الناس يصدون ويوردون عن وجدانهم لاعن عقولهم، وهذا شأن الجماعات فى الاندفاع تحت تأثير الغضب، فكثير من الجماهيرلاينفع فيهم منطق ولايرد جماحهم عقل».
تتطابق رواية«النجار»مع رواية عبد الرحمن فهمى حول الشغب فى«منيا القمح»،ويزيد عليها:«وردت الأخبار بأن أهالى مركز الدلنجات من أعمال البحيرة أتلفوا سكة حديد الدلتا فى ستة أمكنة،فعطلت المواصلات فى هذا الخط،وسمعت عصر اليوم أن مصلحة السكك الحديدية لم تتمكن من تسيير القطارات العادية بين القاهرة والإسكندرية بسبب كثرة الحوادث، وأنه بذلت أكبر جهد حتى استطاعت أن تسير قطار بضاعة واحدًا،ووضعت فى كل عربة منه عددًا من الجنود المسلحين».
يذكر النجار: «انقطاع المواصلات صور الحوادث فى أبشع صورها،وألقى فى الروع صورا فظيعة تخيل للناس أن البلاد تضطرم فيها الثورة فى كل مكان،وأكد ذلك أن بعض الناس أرسلوا تلغرافات إلى ذويهم،فكان بعضها يأبى العمال تسلمه،وبعضها الآخر لايأتى رده،وعين القائلون انقطاع التلغراف بين شبرا والقاهرة،وقويسنا والقاهرة..وترامت الأخبار ليلا بأن جسر كبرى«القشيشة»القريب من الواسطى دمر،ووصلت القطارات من الوجه القبلى متأخرة بضع ساعات ونوافذها محطمة».
وعلى النقيض من ذلك،قدمن النساء أروع صور المشاركة فى الثورة بمظاهرة تعد الأولى من نوعها فى تاريخ مصر،ويذكر«النجار»:«السيدات من كرام العقائل خرجن فى حشمة ووقار ليعربن عن مشاركتهن للرجال فى إبداء العطفة الوطنية نحو بلادهن،وألفن موكبا فخما يتقدمه أربعة من طلبة الأزهر أمسك كل واحد منهن بطرف العلم المصرى منبسطا كما يفعل المسيحيون فى بساط الرحمة عند تشييع موتاهم،ووضع الصليب داخل الهلال موضع النجوم فى هذا العلم،ولم يسبق لى ولالأحد أن رأى مثل ذلك قبل هذا اليوم،وكان خلف الأربعة الأزهريين أزهريان أيضا يحملان علما آخر رسم فى أعلاه هلال معانق لصليب، وكتب على العلم:«الحرية من آيات الله..الحرية غذاؤنا والاستقلال حياتنا»،وسارت السيدات فى صفين على جانبى الطريق تتوسطهن واحدة منهن حاملة علما أبيض علامة للسلام وفيه الهلال بلون أحمر،وبلغ عددهن فى صفين 320 سيدة،وخلف الصفين سبع سيدات،سرن صفا واحدا بعرض الطريق،وفى أيديهن عرائض كتبت فيها مطالب المصريين وفى مقدمتها استقلال البلاد».
يذكر النجار:«طافت المظاهرة أهم شوارع القاهرة،وخرج أكثر أهل القاهرة رجالا ونساء وأطفالا لشهود هذا الموكب،يرددون الهتاف مع الهاتفات..ووصلن إلى منزل سعد باشا زغلول، فحال الجنود الإنجليز بينهن وبين الوصول إليه ودخوله،وصوبوا البنادق إلى صدورهن،فتقدمت حاملة العلم إلى الضابط الإنجليزى القابضة يده على المسدس وقالت وهى تكشف صدرها بيدها اليسرى:«هذا صدرى فهات ماعندك،نحن لا نهاب الموت ولتكن فى مصر مس كافل أخرى».. و«مس كافل» هى الممرضة الإنجليزية التى أسرها الألمان فى الحرب العالمية الأولى واتهموها بالجاسوسية وأعدموها رميًا بالرصاص».
يضيف النجار: «ظلت السيدة واقفة فى مكانها والضابط أمامها برهة رهيبة انثنى بعدها خجلًا خافضًا سلاحه هاتفًا بعساكره: «أفسحوا الطريق»، ولبثت المتظاهرات ساعتين فى شارع سعد زغلول وما حوله فى حال حصار بالبنادق والسونكيات».