إلياس خورى وحوار الذكريات لـ"انفراد": علينا ترجمة الأدب العبرى دون إذن إسرائيل.. لم نخسر شيئا برحيل كنفانى.. "النبى" كتاب "تافه".. وأتعجب من زوجتى وأولادى.. وتوقفت عن الكتابة لوفاة إحدى شخصيات رواياتى

عندما تكون فى مواجهة كاتب بحجم المبدع الكبير إلياس خورى، فلا شك أن الحوار الذى تسعى لإجرائه، سيتخذ شكلا آخرا مغايرا عن النمط المعتاد فى الحوارات الأدبية، التى تركز أسئلتها على الروايات التى قدمها الكاتب خلال مسيرته الإبداعية، خاصة إذا ما كنت تسعى لرؤية الكاتب من خلف الكواليس، أو مراجعته فى بعض التصريحات التى سبق وأن أدلى بها من قبل، وإذا ما كان ما يزال متمسكا بموقفه هذا أم لا. فى ملتقى تونس للرواية العربية، فى دورته الثانية، حل الكاتب اللبنانى إلياس خورى، ضيف شرف على هذه الدورة، وبين الرغبة فى مناقشة رواياته، والتعرف على ما يمكننا وصفه بالجانب الآخر، أمام هذا الكم من الحوارات التى أجريت معه، رجحت كفة هذه التساؤلات المتنوعة ما بين الذكريات والمواقف.. وكان لنا هذا الحوار.. بين الالتزام السياسى والتجربة الأدبية.. هل منحك الأدب حرية أكثر أم أن الالتزام السياس طاردك؟ وكيف أثر ذلك على تجربتك؟ أنا لم أنتمى إلى المدرسة الواقعية الاشتراكية فى الأدب، ومنذ البداية، فأنا أعتقد أن الأدب فعالية مستقلة تتجاوز الراهن، وهى تعبير عن أعماق التجربة الإنسانية، ولذلك فلا أعتقد أن لها أى علاقة بمعنى ما بالالتزام السياسى، كما أننى لم أكن ولا مرة فى أى موقع سياسى، كما أن الأدب يقوم بنقد السلطة، أى سلطة من جميع ظواهرها، فبالتالى لم أشعر بالتوافق أو التعارض، وفى النهاية، فإن مشاركتى فى العمل السياسى منذ أن كنت شابا، من خلال الحس الإنسانى، والتماهى مع المهمشين والمقهورين لأننى واحد منهم، أما عن الممارسة السياسية فهى تتمثل فى نضالنا نحن العرب إلى أن نكون مواطنين، فمهتى السياسية هى أن أدافع عن فكرة المواطن. "فى كل مرة أجلس فيها للكتابة أشعر بأنه يجب على البدء بتعلّم الكتابة من جديد".. هل ما زلت تشعر بهذا الشعور؟ بالتأكيد، فأنا أعتقد أن الكاتب الذى يعرف كيف يكتب، كاتب سيئ، لأنه يلجأ إلى الصيغة الجاهزة، فأنا أذهب إلى الكتابة كرحلة إلى الآخرين، أتعرف على أشياء لا أعرفها، أعيش فى مناخات جديدة، وأتعلم لغتهم، ومن خلال التعرف على لغة جديدة مع كل عمل جديد، فأشعر أننى على أن أتعلم كيف أكتب، وبالتالى أنا أعتقد أن الكتابة هى محاولة عميقة للوصول إلى اللغات والتجارب المختلفة فى مجتمعاتنا، وهذا يحتاج إلى تعلم جديد. وفى اعتقادك إلى أى مدى يمكن للأديب أن يكون راضيا عما كتبه؟ الأدب هو فعالية إنسانية عميقة لا علاقة للرأى بها، ولا يمكننا أن نضعه فى محكمة الرأى، فأنا حينما أفكر فى آراء القراء أو النقاد أشعر بـ"الشلل"، وفى الحقيقة أنا لا أهتم بالآراء، ولا حتى برأيى، ولكن فى بعض المرات تتحول الكتابة إلى شيء مدهش، كما حدث فى فلسطين، عندما قام مجموعة من الشباب، مكونة من 300 شاب وفتاة، أسسوا قرية على أرض صادرتها سلطات الاحتلال الصهيونى، وأسموها باب الشمس، فى لحظة كهذه، أشعر أن الكتابة ملك هؤلاء، فهؤلاء أتفاعل معهم واكتشف كيف يعيد القارئ تأليف الكتاب، فالمؤلف الحقيقى لأى كتاب هو القارئ. وفى أى مرحلة كنت راضيا عما كتبته.. مرحلة الانتهاء من العمل ودفعه إلى النشر أم ما بعد النشر؟ فى الحقيقة أنا لا أحب تسليم ما أكتب إلى الناشر، فأنا أسلمها مكرها، لأن الرواية تأخذ معى فترة طويلة، أقيم فيها علاقات وصداقات وأحيانا أقع فى غرام شخصيات، ولكن للأسف لا بد من ذلك، حتى أستطيع أن أكتب رواية أخرى، وأن أعيش الحياة، فتسليم الرواية إلى الناشر، يشبه الموت، وصدور الرواية يشبه الولادة. تقدم لنا دوما شخصيات نابضة بالحياة يتعلق بها القارئ.. فماذا يفعل إلياس خورى حينما يتورط فى حب إحدى شخصياته؟ أتابع معها الحب، وهذا يؤثر كثيرا على، فكتابة الرواية هو خلق عالم موازى يشبه العالم الذى نعيش فيه، فأنا أتعجب من الذين يعيشون معى بالمنزل، مثل زوجتى وأولادى، وكيف يتحملوننى، وبالفعل فأنا مدين لهم بلطفهم وصبرهم، فتجربة الرواية ليس كما يظن البعض أو يرى أنها تتمثل فى الجلوس أمام الأوراق أو "اللاب توب"، بل هى أن تدخل فى عالم آخر، وأن تعيش هذا العالم، وهو ما يؤثر على كل شيء فى علاقاتك وحياتك. وكم شخصية نسائية فى رواياتك وقعت فى غرامهن.. اذكر لنا مثالا على ذلك؟ جميهن، ولكن مثلا هناك شخصية "نهيلة" فى رواية "باب الشمس"، وشخصية "ميليا" فى رواية "كأنها نائمة"، فمعهما شعرت بالغرام، كالعاشق، والعاشق يكون إما فى حالة حزن أو فرح، فكنت أترجح بين هذين الشعورين، وفى رواية "باب الشمس" عندما ماتت "نهيلة" لم أستطع أن أكمل الرواية، فهى ماتت فى نصف الرواية، وحينها ظللت لمدة ثلاثة أشهر غير قادر على إكمال كتابة الرواية. وكيف تخلصت من هذا التأثير؟ لأن الإنسان، كما ذكر، سمى إنسانا لأنه ينسى، ولكى يستمر الإنسان فى الحياة، فعليه أن ينسى، فالفعالية الأكبر التى نقوم بها ليس التذكر، كما يظن البعض، بل هى النسيان، فإذا لم ننس تتحطم حياتنا، فعندما ماتت أمى، ظنتت أن العالم انتهى، وهكذا خلقنا، وأنا أعتقد أن النسيان هو نعمة الحياة، كما أن الذاكرة هى عملية تنظيم النسيان، كما أن الإنسان يشبه ما نقوم به نحن الكتاب فى كتابة الرواية، نقوم بتأليف حياتنا، نتذكر كى ننسى، وننسى كى نتذكر، وهذا هو جوهر الأدب، وهذا ما أعتقده، ربما أكون على خطأ. على ذكر التذكر والنسيان.. من الشخصيات الروائية ما زال يعيش معك؟ جميعهم، فأنا لم أتوقف مرة واحدة عن الحب، تماما مثل قصص الحب التى عشناها ونحن صغار، نعم لم نعد نلتق، ولكننى لم أتوقف عن حبهم، فقط هو اختلاف الظروف، مثل عدم اللقاء، فأنا أكره الذين يمحون حياتهم كما يفعل الكثيرين. ننتقل إلى ذكرى أخرى.. كيف تلقيت نبأ استشهاد غسان كنفانى؟ كنت صغيرا، أظن كنت فى سن الثالثة والعشرين، وأذكر أننا حينما سمعنا النبأ ركضنا إلى منزله، ورأيناه أشلاء، وليس صحيحا بأننا كنا أصدقاء، لكن تأثير استشهاده كان كبيرا علينا. وفى تقديرك ماذا خسر الأدب والقضية بغيابه؟ برأيى أننا لا نخسر شيئا فى الرحيل، فلا أحد يرحل، فغسان لا يزال حاضرا، ونتحاور معه، لكنه رحل بالمعنى الرمزى، فالموت هو استعارة، فالذين نحبهم لا يموتون. هل اختلفت مع بعض رؤى إدوارد سعيد الذى تقدره حول العلاقة مع الآخر؟ إدوارد سعيد هو أستاذى بالمعنى الرمزى، فنحن كنا زملاء، وهو علامة كبرى فى النقد الأدبى، ليس عند العرب وحدهم، بل فى العالم، وإدوارد سعيد يجب أن يقرأ أولا كناقد أدبى مستنير، فهو الذى أسس لنظرية الأدب ما بعد الكولونيالى، والتى تدرس فى جامعات العالم، فهو منظر كبير فى الأدب، كما أنه حمل فكرة فلسطين وأعاد صياغتها ووضعها فى سياقها الإنسانى، وبالتالى فهو معلم، فمن أنا لكى أختلف معه. ما هى ذكرياتك عن إعلان الاستقلال عام 1988 الذى أعلنه الزعيم ياسر عرفات من الجزائر وكتبه محمود درويش؟ كنت شاهدا على هذا، ولم أكن أستطيع حينذاك أن أكون عضوا، لأننى لست فلسطينيا، وكنت بصفتى عضو مراقب، وحضرت الجلسة، وكان لدى تحفظ، يتمثل فى أن الاستقلال يستند إلى قرار التقسيم، ما يعنى أنه يتضمن اعترافا بإسرائيل، ولهذا كنت أرى أن اللجوء إلى هذه المادة لا لزوم لها، فنحن لسنا مضطرين للاعتراف بإسرائيل، حتى وإن كانت القيادة ذاهبة إلى تسوية ما، والتى تثبت بعد ذلك أنها تسوية وهمية. على ذكر إسرائيل.. ما هو الفارق بالنسبة لك بين الترجمة العبرية من مؤسسة إسرائيلية وغير إسرائيلية.. هل يعد ذلك تطبيعا؟ أنا رئيس تحرير مجلة الدارسات الفلسطينية، ونحن نترجم الكثير من الصحافة والتقارير الإسرائيلة، وهذا ضرورى، أما عن الأدب الإسرائيلى، فمن الضرورى أن نترجمه، ونقرأه، كى نفهم هذا المجتمع الجاسم على أرضنا، ومن خلال تجربتى الشخصية، فأنا لدى خمسة أعمال تمت ترجمتها إلى العبرية، ولم أوقع عقدا مع أحد. هل تعتقد أننا فى حاجة إلى ترجمة الأدب العبرى إلى العربية.. وكيف ينجو ذلك من فخ التطبيع؟ لا نوقع عقودا مع أحد. بدون أن نحصل على موافقة الناشر؟ طبعا، هؤلاء نهبوا أرضا كاملة بدون الحصول على موافقة أهله. "لا أحب أصحاب الرسالات أو النبوة فى الأدب".. هل هذا موقفك تجاه ما يعرف بالأدب الملتزم بالقضايا؟ هذا موقف من رؤية حكمت الأدب العربى منذ جبران خليل جبران، فهذه النظرة الموروثة التى أعاد إنتاجها جبران فى كتاب "النبى"، وهو واحد من أسوأ كتب الأدب فى العالم، و"تافه" لأنه كتاب وعظى، وهو يأتى من نظرة أعيد إنتاجها مرات، مثل المتنبى، الذى أراد تقديم نفسه كشاعر ونبى ويسعى إلى الملك، وهذه النظرة تضع الشاعر أو الأدب بصفة عامة فى موقع السلطة، وبرأيى أن الأدب ليس سلطة، بل هو نقد للسلطة، وهامش يرد على السلطة، وبالتالى، فأنا لا أحب الأنبياء فى الأدب. هل تعتقد أن الأدب يمكنه أن يتنبأ بتحولات كبرى مثل بعض الروايات التى تناولت عن الثورات العربية قبل الربيع العربى؟ الأدب لا يتنبأ بشئ، بل يستشرف ويقرأ الواقع ويرسم معالمه، والمستقبل هو جزء من الحاضر، ومن هنا فلا يصح أن نقول أن الأدب يتنبأ، بل هو يستشرف، أما النبوءة فنتركها للأنبياء، وليس صحيحا بأن الروايات تنبأت بالثورات العربية، فالثورات العربية فاجئتنا. تحب الشعر وتحفظه وكنت على علاقة بمحمود درويش لكنك لم تكتبه بعد بينما كتبت فى العديد من مجالات الأدب؟ أنا أحب الشعر، وأحفظه، وأدرسه، ولكن ليس لدى الموهبة لأكتب الشعر، "ياريت أكتب شعر". مؤخرا.. أصبح للأدب جماهير مختلفة عن العقود الماضية بسبب سهولة النشر والجوائز والفعاليات الأدبية فأصبحت الكتابة فى مواجهة شبه دائمة مع القراء، فهل تسببت أى مواجهة مع القراء فى ضيق إلى إلياس خورى؟ لدى حساب على "فيس بوك" ولكننى لا أتابع. وهل تعرضت إلى ملاحقة من القراء من قبل؟ لا، لماذا تتم ملاحقتى هل أنا مارلين مورنو. بعض الكتاب لديهم طقوسا خاصة فى الكتابة والبعض الآخر يكتب كل عمل كيفما اتفق.. فماذا عنك؟ أنا أكتب فى الصباح، أجلس لثلاث ساعات أنتظر، فالكتابة هى كائن حى ينمو فى داخل الكاتب، فليس لدى طقوس معينة، سوى الجلوس واحتساء القهوة، والكتابة بالممحاة، ثم أنا لا أحب الوصف فى الأدب، فهذا سخيف، من السخف أن تصف المرأة بالجميلة. بعد 44 عاما من الكتابة.. كيف يقيم إلياس خورى مسيرته الأدبية؟ هذه حياتى، عشت الحياة، فالكاتب العظيم لن نعرف من هو إلا بعد مرور مائة عام على إنتاجه، وبالتالى، فأنا لن أعرف مصيرى، لأننى سأكون فى خبر كان، أضف إلى ذلك، أن إشغال الكاتب بمثل هذه الأمور هى إضاعة للوقت بالنسبة له، لأن القارئ هو من يعيد تأليف الكتاب، وكذلك الزمن، والكتاب يقرأ بطرق مختلفة على حسب الزمن، ولهذا فأنا لا يهمى أن أعرف إذا حققت إنجازا أم لا، ربما أكون كذلك، ولكن فى عالم الأدب العربى، هناك شخص واحد هو الذى يعرف، وهو المتنبى، وهو عظيم فعلا.
















الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;