أحرق جنود الاحتلال الإنجليزى قرية «الشبانات» التابعة لمركز الزقازيق بمحافظة الشرقية، فكتب واحد من أهلها هو «راغب أفندى بشاى» تفاصيل المأساة، وأرسلها إلى عبدالرحمن فهمى بك، الذى أرسلها بدوره إلى سعد زغلول باشا فى منفاه بمالطة، حسبما يؤكد«فهمى» فى الجزء الأول من مذكراته «يوميات مصر السياسية»عن «دار الكتب والوثائق القومية–القاهرة».
وقع الحدث فى يوم 25 مارس- مثل هذا اليوم- 1919، أثناء أيام الثورة التى اندلعت يوم 9 مارس، وكان «فهمى» بوصفه قائدا للجهاز السرى للثورة يتلقى التقارير عن أحداثها، ويرسلها سرا إلى سعد زغلول فى منفاه، ويتلقى ردودا عليها حسبما يؤكد مصطفى أمين فى كتابه «الكتاب الممنوع»، وكانت مأساة قرية «الشبانات» موضوع رسالة جاء فيها: «إليك ما يقوله راغب أفندى بشاى من أهالى تلك القرية فى تقريره الذى أرسله إلينا.. فى منتصف الساعة الحادية عشرة من يوم 25 مارس،حضرت ثلة من الجنود البريطانية وأحاطت بمنزل عمدة القرية، فاستدعانى العمدة لأكون واسطة التفاهم بين الفريقين لأنى الشخص الوحيد الذى يعرف الإنجليزية فى البلدة.. توجد قطعة أرض مزروعة تابعة للقرية واقعة خلف شريط السكة الحديد، وحيث إنه كانت قد صدرت أوامر عسكرية وقتئذ بمنع مرور الأهالى بعد الساعة السابعة مساء على شريط السكة الحديد فقد طلب ضابط هؤلاء الجنود استصحاب العمدة لتلقى الأوامر من قائدهم وهو ضابط برتبة كولونيل وكان فى «خص» مزارعى قطعة الأرض المذكورة، ولما وصلت أحاط بى الجنود وجعلونى تحت الحفظ، فأخبرنى الكولونيل بأنه فى الساعة الثانية بعد ظهر يوم 24 مارس، قتل أحد الجنود الهندية الذى كان حارسا للسكة الحديدية بجهة البلدة ولم يعثروا على جثته فأنذرنى بإحراق القرية إن لم يسلم إليهم الفاعل، وعلى ذلك ضربت الجنود نطاقا حول البلدة، وصدر أمر بإخراج جميع الأهالى من كبير وصغير، فكانوا يساقون بالحراب فى غير شفقة ولا رحمة حتى النساء والأطفال، ومن المناظر المحزنة أن امرأة كانت حاملا، وأوشكت على الوضع فكانت تتألم ولا تقوى على السير فوخزها الجنود بحرابهم حتى توفيت المسكينة فى الحال».
أضاف «بشاى» فى رسالته إلى فهمى ومنها إلى سعد زغلول: «بعد أن تم إخراج جميع الأهالى فصلوا الرجال عن النساء ثم نصبوا مدفعا رشاشا خلف الرجال بعد أن أجلسوهم على الأرض، وطلب ضابطهم من العمدة إحضار صاحب الحقل الذى وقعت فيه الجريمة، فاتضح عدم وجود أحد منهم فى ذلك اليوم بالحقل، لأنه مزروع قمحا وفولا فلا داعى لوجودهم به، فأخبر الضابط العمدة حينئذ بالجريمة التى وقعت فى حقل هؤلاء الناس، وأمره بإحضار الجانى فى الحال وإلا أضرموا النار فى أهل القرية، لذا طلب منه أن يمهله يوما ليبحث عنه فى القرى المجاورة فأبى وأخيرا طلب منه أن يمهله عشر دقائق فأصر على الرفض، وكانوا مزمعين على قتل خمسين من كبار القرية ففصلوا الأطفال إلى مكان السيدات، وفى الساعة الثانية والنصف أصدر ذلك الضابط أمره بإحراق البلدة وأنذر بأن من يقف منا يرمى بالرصاص، وآنذاك رأينا الجنود يحطمون أبواب المنازل ويدخلونها ويأخذون منها كل ما يعثرون عليه مما خف حمله وغلا ثمنه ثم يشعلون النار فيها.
بعد أن أحرقوا البلدة تركوها، وانسلوا خفية بين الغلال، ومنعوا أهالى القرى المجاورة من حضورهم لنجدتنا، وبات نيف وأربعة آلاف نفس تلك الليلة فى العراء يفترشون الغبراء ويلتحفون بالسماء، واستمرت النار مشتعلة يومين وفى بعض الأماكن بقيت بضعة أيام، وأصبح أهل القرية لا يملكون إلا ما على أجسامهم.. ومن الغريب حقا أن بلاغا رسميا واحدا لم يشر إلى هذا الحادث، وهذا يدل على أن الضابط الذى أمر بارتكاب هذه الفظائع شعر بعظم هذه المسؤولية فلم يبلغ رؤساءه».
يذكر الشيخ عبدالوهاب النجار، مفتش أول اللغة العربية بوزارة المعارف، شهادته فى مذكراته «الأيام الحمراء»، أن أمين عز العرب أفندى أخبره بأنه أطلع فى هذا اليوم على ورقة ممضاة من ملاحظ بوليس مركز قليوب «قليوبية»، وهى نشرة عامة لعمد البلاد يأمرهم أن يعلنوا بطريق المناداة فى بلادهم أنه محظور على كل واحد فى البلاد أن يوجد خارج منزله من الساعة السابعة مساء إلى الساعة الخامسة صباحا، وأن كل واحد تمر به الدورية الإنجليزية عليه أن ينزل إذا كان راكبا ويعطى التحية للضابط الإنجليزى برفع يده إلى رأسه.
يعلق النجار: «مسألة التحية والنزول قانون وضعه الإنجليز فى السودان ولا يعفى منه إلا عدد يسير فى الخرطوم وأم درمان، وهؤلاء معرفون بأسمائهم، والمصريون لم يألفوا هذا الأمر ولا اعتادوه مع حاكم من الحكام».