ركب المسافرون البحر من الإسكندرية، وبدأوا رحلة السفر إلى مرسيليا بفرنسا يوم 6 رمضان1241، الموافق« 12 أبريل–مثل هذا اليوم– 1826»، وفقًا للشيخ رفاعة الطهطاوى فى كتابه «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»..«كان المسافرون 44 شابا أرسلهم محمد على باشا والى مصر فى بعثة تعليمية ترجع أهميتها إلى أنها أولى البعثات العلمية الكبيرة إلى أوروبا فى تاريخ البعوث العلمية أيام محمد على، كما تفوق الكثير من بين أعضائها»، حسبما يذكر كتاب «بناء دولة محمد على» تأليف الدكتور محمد فؤاد شكرى، وعبد المقصود العنانى، وسيد محمد خليل «دار الكتب والوثائق القومية–القاهرة».
كان«الطهطاوى» ضمن أعضاء هذه البعثة التى سبقها بعثتين إلى إيطاليا فى 1809 و1813، واختار«الباشا» فرنسا للبعثة الثالثة، ويؤكد«الآن سيليفيرا» فى مقال «أول بعثة علمية تعليمية مصرية إلى فرنسا فى عهد محمد على»، ترجمة: خلود سعيد«مجلة ذاكرة مصر–مكتبة الإسكندرية–يوليو 2015»، أن اختيار فرنسا سببه أن «بوغوص بك يوسفيان» وزير خارجية محمد على كان يفضل إرسال الطلاب إلى إيطاليا أوإنجلترا، واستشار صديقه «دروفيتى» فكتب له: «جامعات إيطاليا تهفت تحت وطئة الأنظمة الرجعية، والتعصب الدينى يغلب على شعبها الذى يعادى المسلمين، فى حين تتميز باريس بالتسامح والكرم تجاه الأجانب، والمناخ الصحى والمؤسسات المتميزة فى التعليم العالى».
يؤيد «الطهطاوى» هذا الرأى فى «تخليص الإبريز»، قائلا: «لاينكر منصف أن بلاد الأفرنج الآن فى غاية البراعة فى العلوم الحكمية وأعلاها فى التبحر فى ذلك، فى بلاد الإنكليز، والفرنسيس، والنمسا، فإن حكماءها فاقوا الحكماء المتقدمين، كأرسطاليس وأفلاطون، وبقراط، وأمثالهم، وأتقنوا الرياضيات والطبيعيات، والإلهيات، وماوراء الطبيعيات أشد إتقان، وفلسفتهم أخلص من فلسفة المتقدمين، لما أنهم يقيمون الأدلة على وجود الله تعالى، وبقاء الأرواح والثواب والعقاب، وإذا رأيت كيفية سياستها، علمت كمال راحة الغرباء فيها وحظهم وانبساطهم مع أهلها، فالغالب عن أهلها البشاشة فى وجوه الغرباء، ومراعاة خواطرهم، ولواختلف الدين، وذلك لأن أكثر أهل هذه المدينة إنما لهم من دين النصرانية الاسم فقط، حيث لاينتحل دينه، ولاغيرة له عليه، بل هو من الفرق المحسن والمقبحة بالعقل، أوفرقة من الإباحيين الذين يقولون: إن كل عمل يأذن فيه العقل صواب، فإذا ذكرت له دين الإسلام فى مقابلة غيره من الأديان أثنى على سائرها، من حيث إنها كلها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وإذا ذكرته فى مقابلة العلوم الطبيعية قال: إنه لايصدق بشىء مما كتب أهل الكتاب لخروجه عن الأمور الطبيعية».
يضيف الطهطاوى:«فى بلاد الفرنسيس يباح التعبد بسائر الأديان،فلا يعارض مسلم فى بنائه مسجدًا،ولايهودى فى بنائه بيعة،إلى آخره،ولعل هذا كله هو علة وسبب إرسال البعوث فيها هذه المرة الأولى أبلغ من أربعين نفسًا لتعلم العلوم المفقودة،بل سائر النصارى تبعث أيضًا إليها،فيأتى إليها من بلاد«أمريكية»وغيرها من الممالك البعيدة».
يكشف «سليفيرا» عن أعضاء هذه البعثة، مؤكدًا أن «الطهطاوى» كان أصغر قليلًا من الباقين الذين كانت متوسط أعمارهم السادسة والعشرين، وكان هو فى الخامسة والعشرين من عمره «مواليد 15 أكتوبر 1801–طهطا–سوهاج».. يضيف: «كان أعضاء البعثة معظمهم ينتمون إلى عائلات ميسورة يملأها الطموح باعتبارها من المفضلين فى هذه المناسبة، وكان هذا بالضبط ماحدث مع الطلاب الأربعة الموهوبين من الأرمن الكاثوليك، وباستثناء هؤلاء الطلاب الأرمن كان جميعهم من المسلمين، ونزولا على رغبة الشيخ حسن العطار، تم ضم الشيخ رفاعة للبعثة فى آخر لحظة ليكون إمامها».
يكشف «الطهطاوى» أنه بعد اختيار أعضاء البعثة خرجوا من مصر «القاهرة» يوم الجمعة 8 شعبان 1241 هجرية.. ويتذكر: «ركبنا زوارق صغيرة وتوجهنا إلى الإسكندرية، وأقمنا على ظهر النيل المبارك أربعة أيام.. وكان دخولنا الإسكندرية يوم الأربعاء «ثالث عشر يوما» من شهر شعبان، فمكثنا فيها ثلاثة وعشرين يوما فى سراية الوالى».. يؤكد الطهطاوى أنه لم ير الإسكندرية من قبل.. ويقول:«كان خروجنا إلى البلد فى هذه المدة قليلا، فلم يسهل لى ذكر شىء من شأنها.. غير أنه ظهر لى أنها قريبة الميل فى وضعها وحالة بلاد الإفرنج، وإن كنت وقتئذ لم أر شيئا من بلاد الإفرنج أصلا، وإنما فهمت ذلك مما رأيته فيها دون غيرها من بلاد مصر، ولكثرة الإفرنج بها، ولكون أغلب السوقة يتكلم ببعض شىء من اللغة الطليانية ونحو ذلك، وتحقق ذلك عندى بعد وصولى إلى مرسيليا، فإن إسكندرية عينة «مرسيليا» وأنموذجها، ولما ذهبت إليها وجدتها قطعة من أوروبا».
يذكر الشيخ عبد المتعال الصعيدى فى كتابه «تاريخ الإصلاح فى الأزهر»: «لما جاء وقت سفر رفاعة ذهب إليه أستاذه حسن العطار، ليزوده بنصائحه وإرشاداته، فنصحه بأن يقوم بتدوين كل مايراه فى تلك البلاد العجيبة، ويعنى بدراسة العلوم التى نبغوا فيها، وكانت سبب قوتهم ونهضتهم، ليقوموا بنقلها إلى اللغة العربية فيستفيد أهلها منها، ونهضوا بها كما نهض أهل أوروبا.. ونفذ الطهطاوى نصيحة أستاذه».