عاش الشاعر عبد الرحمن الأبنودى فى سنواته الأخيرة بالإسماعيلية عملا بنصيحة أطبائه، بأن يعيش فى مكان تقل فيه نسبة التلوث، وظل فيها حتى موته يوم 21 إبريل- مثل هذا اليوم -2015 وعمره 76 عاما «مواليد 11 إبريل 1939 بقرية أبنود - محافظة قنا».
تفاقمت حالته المرضية فى أيامه الأخيرة، فترقب الكل خبر موته، ومع ذلك عمت الأحزان، وكأن موته مفاجئ، فحضوره الشخصى المحبب بدا كما لو كان أبديا، أما حضوره الشعرى فهو أبدى حقا.. ومن الحياة إلى الموت «عاش رحلة خصبة مع الحياة والشعر بمحبة طفل عاشق لتراب الوطن والشعر، رحلة استطاع خلالها أن يكون أحد فرسان الشعر الكبار، فى مصر والعالم العربى، بعد أن جعله يمشى على لسان البسطاء، ويجسد أحلامهم وأشواقهم فى الحياة»، حسبما يذكر الشاعر «جمال القصاص» الشرق الأوسط، 22 إبريل 2015».
كان مرشحا للموت فى طفولته، وفقا لقوله فى سيرته «أيامى الحلوة»: «كنت ضعيفا نحيفا وعليلا مزمنا، ضئيل البدن، أصفر الوجه، لدرجة أن أمى «فاطمة قنديل» كانت، وأنا طفل لا أعى، تربط ركبتى المنحلتين بأشرطة من القماش تمسك الساقين اللتين تشبهان أعواد البوص كى لا تنفرطا.. كانت فاطمة قنديل أمى، تفخر بأنها حققت بى أكبر معجزة فى الدنيا وهى أنها أبقتنى على قيد الحياة فى قتال مرير وحرب ضروس وضد الطبيعة وقوانين الوجود بخبرتها الطبية النادرة ووعيها بتجارب السابقين.. والدى العاقل «الشيخ الأبنودى» قال لها بثقة: «دعيه يموت فى هدوء، لا تتعلقى به، اعتبرى أنك لم تنجبيه، شدى حيلك وهاتى غيره، ليس له عمر، لكن قلب الأم أبى أن ييأس أو يتخلى، نفضت عنها فكرة أن تلقى بى إلى حدادى الموت، وتمسكت بابنها المسلول وجعلت منه قضيتها، ودرسها الخالد الذى علمته للأجيال، والذى يجب أن يسجل باسمها فى موسوعة «جينيس».
«لم أولد وفى فمى ملعقة من ذهب».. هكذا يؤكد فى مقدمة «أيامى الحلوة»، ورغم طفولته الفقيرة إلا أنها ظلت مصدر فخره ودافعه للبحث عن الحق والخير والجمال، يقول: «لا أتعدى أن أكون مواطنا بسيطا عاش فقيرا فى قرية فقيرة اسمها «أبنود»، ثم انتقلت إلى مدينة «قنا» لأعيش فى كنف والدى بعد طول فراق لتختلف الحياة قليلا عما كانت..نحن أبناء الطفولة الفقيرة العبقرية مدينون لفقرها بهذا الثراء الكبير الذى تمتلئ به أرواحنا وذاكرتنا ودفاتر الماضى والحاضر».
يتذكر لحظة طرقه أول أبواب الوعى بالشعر، حين وجد فجأة فى بيتهم ديوان «الناس فى بلادى» وقرأ اسم شاعره «صلاح عبد الصبور»، ولم يعرف من جاء به.. قرأه لمدة يومين وكان ينهيه ثم يعاود قراءته..يقول: «كنت قد قرأت العديد من دواوين الشعر وعرفت شوقى وحافظ والبارودى وغيرهم لكن أبدا ما ارتبط الشعر بالسحر، فى حالتى، كما كان الحال مع صلاح عبد الصبور.. حملت الديوان وأنا أخبئه كأنه قطعة مخدرات، وأسرعت نحو بيت أمل دنقل على «خور الماء» الذى يخترق مدينة قنا.. كان كعادته معصعصا يلبس جلبابا مخططا، وانتقلنا إلى بيت كمال عارف.. صار أمل يقرأ بصوت مرتفع فيه تعال، وكنت أغتاظ بشدة وأتهمه بأنه لا يحب الرجل الذى لا نعرفه».
يضيف: «سرعان ما عثر «أمل» على ديوان أحمد عبد المعطى حجازى «مدينة بلا قلب».. أعجبت شديدا بالشاعرين كأنى أطرق أول أبواب الوعى بالشعر، وسرعان ما ألقيت بما كتبت، وبدأت أكتب قصائدى الأولى بالعامية والتفعيلة، أصبت بجنون الكتابة، أنجزت ديوانا كتبه لى بخطه الجميل «فاروق كتات» ورسمه أخى وصديقى «جمال نصارى» وهكذا وبسرعة صار لى ديوان شعر وأنا فى السنة الأولى الثانوية..ديوان بكر التجارب فيه بدايات تحسس الحياة من حولى».. يكشف رد فعل والده «الشيخ الأبنودى»: «لم أكن بالبيت، قالوا لى: صارت شفاهة ترتعش، وتغير وجهه وصار يتمتم «استغفر الله العظيم».. كان الديوان طويلا مثل دفاتر التموين، استلهمت فكرته من «البياض» الذى يجمع بيض الدجاج من النساء.. مد والدى الشيخ الجليل يده بقوة وظل يمزق ديوانى الأول ورقة ورقة.. أحمد الله أنى لم أكن هناك وإلا ما تحملت، وربما حدث ما لا تحمد عقباه- وقد أصبح الديوان طعاما للنيران- ظللت آسفا عليه وأكاد أنوح مدة طويلة، وأحمد الله أن الواقعة لم توقفنى عن كتابة الشعر».
لم يتوقف.. كتب قصيدة عن القطن.. أرسلها إلى مجلة «صباح الخير».. نشرها صلاح جاهين مصحوبة برسم لأكبر رسامى المجلة، فأحس بأنه وضع قدميه فوق مشوار الشعر.. يتذكر: «فتحت لى أبواب كثيرة، حيث عرف الناس فى المحيط الذى كنت أعيش فيه هناك أننى أصبحت شاعرا»، ويؤكد أنها ربطته بصلاح جاهين، وأدخلته عالم الطرب من أوسع أبوابه، حين فوجئ بغنائها فى الإذاعة.
شمل حضوره الطاغى فى المشهد العام مواقفه السياسية التى أدخلته المعتقل لشهور عام 1966، فى زمن عبد الناصر، ورغم ذلك ظل وفيا له وكتب بعد رحيله بنحو ثلاثين عاما قصيدته «يعيش جمال عبدالناصر»: «مش ناصرى ولا كنت فى يوم بالذات فى زمنه وفى حينه.. لكن العفن وفساد القوم نسانى حتى زنازينه.. إزاى ينسينا الحاضر طعم الأصالة اللى فى صوته.. يعيش جمال عبدالناصر يعيش جمال حتى فى موته».