جلس جمال عبدالناصر على مائدة المفاوضات فى الكرملين بموسكو، فى أول زيارة له للاتحاد السوفيتى، وأول لقاء مع القيادة السوفيتية بزعامة خروتشوف «راجع ذات يوم 29 أبريل 1958».
يذكر محمد حسنين هيكل وقائع الزيارة فى كتابيه «عبد الناصر والعالم» و«سنوات الغليان».. يكشف: «على مائدة المفاوضات وفى مواجهة خروتشوف وبولجانين، رئيس الوزراء السوفيتى 1955 -1958، قال عبدالناصرإنه يريد أن يطرح مجموعة من القضايا السياسية العامة، وبعدها يمكن أن ينتقل البحث إلى مسائل التعاون الثنائى، وكانت القضايا، إسرائيل، والوحدة العربية، والأحزاب الشيوعية فى العالم العربى.. يضيف هيكل: «طالت المناقشات وتشعبت وثارت فى بعض الأحيان نقاط خلاف، وثارت مشاكل بسبب الترجمة».
يؤكد هيكل فى «عبدالناصر والعالم»: «مشاكل الترجمة كادت تصل إلى درجة الأزمة، بسبب خطأ من المترجم».. ويكشف: «كانت الوفود المصرية تجابه مصاعب الترجمة عندما تتعامل مع الروس، وكان فى وسع عبدالناصر أن يتخاطب باللغة الإنجليزية بسرعة مع «دالاس..وزير الخارجية الأمريكية»، ومع «إيدن» وزير الخارجية البريطانية ورئيس الوزراء، ولكن لم يكن لديه مترجم روسى، بينما كان مترجمو العربية من أولئك الذين تدربوا فى كلية الدراسات الشرقية والذين لم يزوروا قط أى قطر عربى، وكانت النتيجة مرهقة».
كان عبدالناصر وحسب هيكل: «يشرح للروس طبيعة الثورة المصرية.. تحدث عن استقلاله وعن معاداته للإمبرياليين وعن عدم انحيازه، وعن تكريس نفسه للوحدة العربية، وانطلق من ذلك إلى الحديث عن التطوير والإنماء الاجتماعى والاقتصادى المتجه فى طريق اشتراكى ذى ملامح خاصة».. يؤكد هيكل: «كان يترجم كل ذلك-ببعض التردد- مترجم يبدو عليه الضيق، وهو يجلس إلى رأس مائدة طويلة يجلس إليها أعضاء كل من الوفدين فى مواجهة البعض، وتولى ترجمة كلام خرشوف عندما كان الزعيم الروسى يتحدث، وفهم الرئيس عبدالناصر منه أن خروشوف قال إنه إذا كان «عبدالناصر» سيتبع سبيلا اشتراكيا فإنه لا يمكن أن يظل معاديا للشيوعيين، واعتبر عبدالناصر ذلك إشارة إلى حظره الحزبيين الشيوعيين فى مصر وسوريا».
يضيف هيكل:«سرعان ما انتهى الاجتماع ولم يرد عبدالناصر.. ولكن عندما اجتمعا فى الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي»30 إبريل، مثل هذا اليوم 1958، افتتح عبدالناصرالجلسة قائلا: «يجب أن أقول صراحة إننى لم أستسغ مناقشتنا فى الأمس، وأمضيت ساعات أفكر فيها، ووجدت أن على قبل المضى فى هذه المحادثات أن أطلب إيضاحا، ومضى يجمل ما فهم أن خرشوف قاله فى اجتماعهما السابق، بينما كان المترجم الروسى يعيد صياغة أقواله بالروسية، ثم قال إن ما فهمه يشكل تدخلا فى الشئون الداخلية للجمهورية العربية المتحدة، وقال: لن نسمح بقيام الحزب الشيوعى فى الجمهورية العربية المتحدة «مصر وسوريا»، ولا نعتقد بأن الأحزاب الشيوعية تتفهم أوتحلل تحليلا صحيحا طبيعة الحركة القومية فى الدول النامية، وبالتالى لن نجيز قيامها، ولست مستعدا للإصغاء إلى أى شىء يتعلق بتلك الأحزاب».
يواصل هيكل: «دهش خرشوف، وقال بإلحاح: «لم أقل ذلك إطلاقا».. وأقسم بأنه لم يقل شيئا بشأن الحزبين الشيوعيين فى مصر وسوريا، ورد عبدالناصر بأن هذا ما فهمه».. يضيف هيكل: «كان المترجم يترجم هذا الحوار من العربية إلى الروسية وبالعكس، وبدأت تستولى عليه الرعشة والارتجاف، ومضى خرشوف يؤكد براءته، فقال عبدالناصر إن الأمر ربما كان من قبيل سوء التفاهم الناتج عن خطأ فى الترجمة ذلك لأنه فهم جيدا واستوعب ما سمعه.. وعند ذلك بدأ خرشوف يزمجر: إذا كان الأمر خطأ ارتكبه المترجم فإنه يجب ألا يمضى بلا عقاب، وقام المترجم بواجبه فترجم هذه العبارة بعربية ركيكة جدا، وأشفق عليه عبدالناصر وقال: حسنا لننس الموضوع، لكن خرشوف ظل عنيدا متصلبا: لا، لا، إذا كان يرتكب الخطأ فى أمر مهم كهذا فإن علينا أن نحوله إلى قطعة من الصابون.. ردد المترجم كل كلمة من هذا التهديد وكان جسمه كله يتصبب بالعرق خوفا، وأصبح المشهد أكثر من أن يتحمله عبدالناصر، فانطلق ضاحكا مقهقها من المفارقة الغامضة.. ولكن خرشوف لم يستطع أن يفهم لماذا يضحك».
يذكر الدكتور أحمد الخميسى فى كتابه «أوراق روسية» أن رجل المخابرات المعروف «فاديم كيرينشتكو»، سجل ذكرياته عن مصر وعبدالناصر والسادات فى كتابه «المخابرات.. وجوه وشخصيات»، وفيها أن خروشوف سأل عبدالناصر فى زيارته الأولى لموسكو: كيف تقضى أوقات فراغك؟.. أجاب: فى ساعات الفراغ القليلة أمارس التصوير السينمائى، ثم دار نقاش حول هذا الموضوع، وقال خرشوف خلال ذلك، أن أفلام التصوير السينمائى الملونة تبدو أجمل بكثير من أفلام الأبيض والأسود»، وحينئذ قال عبدالناصر: «أفلام التصوير الملونة غالية علىّ».. يعلق كيرينشتكو: «نطق عبدالناصر هذه العبارة بشكل طبيعى ودون افتعال أو تصنع، قالها ببساطة كمجرد تقرير بواقع نظام حياته اليومى».
يذكر هيكل: «عندما بدأ عبدالناصر يستعد للوضوء للتوجه لصلاة الجمعة فى أحد جوامع موسكو، انهال عليه خرشوف بالأسئلة عن الصلوات الإسلامية، وإذ وقف عبدالناصر ليتوضأ حمل له خرشوف المنشفة فى يده، وكان فى ذلك يتصرف بغاية الرقة والدماثة».