- ترك قصر الخلافة وجلس على الحصير وجرد أهله من أموالهم وممتلكاتهم التى حصلوا عليها دون وجه حق
- استقرار الأوضاع ساهم فى ظهور آثار إصلاحاته العظيمة وتثبيت أركان دولته العظمى
فى بيت فقير من بيوت المسلمين، دار حوار بين الفتاة التقية الورعة بائعة اللبن ووالدتها التى أمرتها بخلط اللبن بالماء، فنبهتها الفتاة إلى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شدد على عدم غش اللبن وفرض عقوبات على من يفعل ذلك، فردت الأم بأن عمر لا يراهما، لترد الفتاة بمقولتها الخالدة: «إن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا».
وبينما يتفقد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رعيته ليلاً، استمع إلى حوار الأم وابنتها، فقرر أن يزوج أحد أبنائه من تلك الفتاة التقية الورعة، وقال لابنه عاصم بفراسة المؤمن: «تزوجها والله ليوشكن أَن تأتى بفارس يسود العرب»، كما روى عن الفاروق، رضى الله عنه، أنه قال: «إن من ولدى رجلاً بوجهه أثر يملأ الأرض عدلاً».. هكذا كانت بشارة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب التى تنبأت بقدوم وميلاد خامس الخلفاء الراشدين الخليفة عمر بن عبدالعزيز الذى ملأ بلاد المسلمين عدلا، وكان من أعظم الحكام ومؤسسى الدول والأمم القوية، وحمل قبسا من نور جده الفاروق عمر بن الخطاب.
ميلاد خامس الخلفاء الراشدين:
هو عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، أبوحفص القرشيّ الأموى، وأمه هى أم عاصم، ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، ورغم اختلاف المؤرخين حول سنة ميلاده فإنه من المرجح أنه ولد عام 61 هجريا، لأنه يؤيد ما ذكره المؤرخون بأنه توفى عام 101 هجريا وعمره أربعون سنة.
وتذكر بعض المصادر أنه وُلد بمصر، لأن أباه عبدالعزيز بن مروان تولى حكم مصر، ولكن هذا القول ضعيف، لأن والده تولى أمر مصر عام 65 للهجرة، ولم يكن مقيما بها، وكانت إقامته وبنى مروان فى المدينة، لذلك فإن المرجح أن عمر بن عبدالعزيز ولد فى المدينة المنورة ونشأ عند أخواله من آل عمر بن الخطاب، فتأثر بهم وبمجتمع الصحابة.
وكان عمر بن عبدالعزيز يُلقّب بالأشج، لأنه عندما كان صغيرًا دخل إلى إسطبل أبيه عندما كان والياً على مصر، فضربه فرس فى وجهه فشجه، فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بنى أمية إنك إذاً لسعيد، مستبشرا بمقولة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأن ابنه سيصبح أشج بنى أمية الذى يملأ الأرض عدلاً، كما لقب بن عبدالعزيز باسم عمر الثانى لشدة التشابه بينه وبين جده عمر بن الخطاب فى الصفات والورع.
العالم الأديب والياً على المدينة:
نشأ عمر بن عبدالعزيز محباً للعلم مقبلاً عليه، وعندما تولى والده ولاية مصر طلب منه أن ينتقل معه، ولكن عمر طلب أن يرتحل إلى المدينة لطلب العلم ومجالسة الفقهاء والعلماء، وكان له ما أراد، فاشتهر بعلمه وأدبه، فلما مات أبوه تولاه عمه أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان، مع أبنائه وقدمه على كثير منهم، وزوجه بابنته فاطمة.
وفى سنة 87 هجريا أى عندما بلغ عمر بن عبدالعزيز سن 26 عاما ولّاه ابن عمه الخليفة الوليد بن عبدالملك على إمارة المدينة المنورة، وضم إليه ولاية الطائف سنة 91 هجريا، فصار واليا على الحجاز كلها، واستقبله أهل المدينة استقبالا حسنا، لأنهم كانوا يعرفون خلقه وفضله منذ نشأ بينهم، وكان عمر بن عبدالعزيز من خيرة الولاة وأفضلهم وأكثرهم كفاءة، فحرص على حسن اختيار معاونيه، وكان من بينهم شيوخه، عروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبدالله بن عمر.
وفى فترة ولايته للمدينة، ساد الأمن والعدل، وشعر أهلها بالهدوء والاستقرار، وجدد عمر بن عبدالعزيز المسجد النبوى، وعمل على تحسين عمارته، وبقى على ولاية المدينة ما يقرب من 6 سنوات أكسبته خبرة واسعة فى شؤون الحكم والخلافة حتى عزله الخليفة الوليد عام 93 هجريا، ولم يكن ذلك بسبب تقصير أوإهمال وتقاعس، ولكن بسبب وشاية استجاب لها الوليد، فعاد عمر إلى الشام، ولم يتولَّ أى منصب حتى وفاة الوليد عام 96 هجريا.
وعندما تولى سليمان بن عبدالملك الخلافة استعان بعمر مستشارا ومعاونا ووزيرا له، وعندما حضرته الوفاة أوصى له بالخلافة من بعده، لما رآه فيه من القدرة والكفاءة والتقوى والصلاح، والميل إلى الحق والعدل ليتولى عمر بن عبد العزيز الخلافة سنة 99 هجريا ويكون ثامن الخلفاء الأمويين وخامس الخلفاء الراشدين.
عمر بن عبدالعزيز خليفة المسلمين:
كان الخليفة عمر بن عبدالعزيز إداريًا عظيمًا، يمتلك من الكفاءة والمواهب والصفات ما جعله من أعظم الحكام فى التاريخ، وحمل كثيرا من صفات جده عمر بن الخطاب كحاكم وخليفة للمسلمين، فكان تقيا ورعا زاهدا، فجدد الأمل فى النفوس بإمكانية عودة حكم الخلفاء الراشدين.
استطاع عمر بن عبدالعزيز خلال عامين وبضعة أشهر هى مدة توليه الخلافة أن يقود الدولة الإسلامية لتكون من أعظم الدول، فعم الرخاء وانتشر العدل وفرض هيبتها وسيطرتها وسلطانها ليعيد الأمن والاستقرار، بعد أن مرّت بفترات عاصفة وأوقات حَرِجة، وفتن مظلمة، فاستأنف الفتوحات الإسلامية، وضمت الدولة إلى أراضيها بقاعا شاسعة فى الشرق والغرب، وتولى عمر بن عبد العزيز منصبه وجيوش مسلمة بن عبد الملك تحاصر القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، فكان استقرار الدولة من أسباب ظهور أثر إصلاحات عمر، وسياسته الحكيمة، وإدارته العادلة، وكانت الدولة الإسلامية خلال هذه الفترة عامرة بالكفاءات الذين يجمعون بين الصلاح والكفاءة، فاستطاع عمر أن يقوم بهذه الإصلاحات العظيمة ويرسى أركان دولته العظمى فى هذه الفترة القصيرة.
سياسته المالية وحرصه على المال العام:
استفاد عمر بن عبدالعزيز بالفترة التى قضاها واليًا على المدينة، واكتسب خبرات عظيمة فى الإدارة، ورأى عن كثب كيف تُدار الدولة، فلما تولى الخلافة كان لديه من الخبرة والتجربة ما يعينه على تحمل المسؤولية ومباشرة مهام الدولة، وحمل بن عبدالعزيز الكثير من صفات جده ابن الخطاب فى العدل والورع والحرص على المال العام والترفع عن مباهج الحكم والسلطة، وكان يختار ولاته بعد تدقيق شديد، فكان منهم العالم الفقيه، والسياسى البارع، والقائد الفاتح.
وكان ابن عبدالعزيز لا يكتفى بحسن الاختيار، بل كان يتابع ويراقب ولاته، ورغم أنه أخذ نفسه بالشدة والتقشف، وألزم نفسه بالحياة الخشنة، إلا أنه لم يلزم ولاته بذلك، بل وسّع عليهم فى العطاء، وفرض لهم رواتب جيدة تحميهم من الانشغال بطلب الرزق، وتصرفهم عن الانشغال بأحوال المسلمين، وفى الوقت نفسه منعهم من الاشتغال بالتجارة، حتى لا يكون هناك شبهات وتجاوز فى حق الرعية حين ينشغل الحكام بأعمالهم وتجارتهم الخاصة، وعزل أهل الجور من الولاة والعمال، من ذلك عزله ليزيد بن مسلم عن أفريقية، لأنه كان قاسيا كثير القتل، يشكو منه الناس.
وعرف عمر بن عبدالعزيز قيمة المال العام، ولم ينفقه إلا فيما فيه نفع الأمة، وكان حريصا أشد الحرص عليه وعلى أوجه إنفاقه، وفور توليه الخلافة أحصى القطائع والأعطيات، فبلغت نصف ما فى بيت المال أو أكثر، فصعد على المنبر وقال:»أما بعد فإن الخلفاء قد أعطونا عطايا ما كان ينبغى لنا أن نأخذها، وما كان ينبغى لهم أن يعطوناها وإنى قد بدأت بنفسى وأهل بيتى»، وضم أمواله وأموال زوجته فاطمة بنت عبدالملك بن مروان وجهازها إلى بيت مال المسلمين، حتى إنه رد فص خاتم كان فى يده، أعطاه له الوليد بن عبدالملك، وزهد فى المال العام وخرج من جميع ما كان فيه من النعيم فى الملبس والمأكل والمتاع، قبل توليه الخلافة حيث كان قبلها من أكثر الأمويين رفاهة وأناقة وكان دخله فى كل سنة أربعين ألف دينار، وترك ذلك كله بعد أن أصبح خليفة المسلمين ولم يبق له دخل سوى أربعمائة دينار فى كل سنة.
كما ترك عمر بن عبدالعزيز قصر الخِلافة فى دمشق وعاد إلى بيته وجلس على الحصير، وأعرض عن ركوب مراكب الخلافة، وهى الخيول الحسان الجياد، وأمر أن تباع ويوضع ثمنها فى بيت المال، وكان له الكثير من الثياب فتركها، وأبقى لنفسه واحداً فقط، فكان يغسله يوم الجمعة وينتظره حتى يجف، كما كان يخدم نفسه بنفسه، ويأكل الغليظ من الطعام، ومن شدة ورعه وخشيته على المال العام خصص سراجا «مصباحا» يكتب عليه حوائجه، وسراجا لبيت المال يكتب عليه مصالح المسلمين، فلا يكتب على ضوئه لنفسه حرفًا.
وأخذ عمر بن عبدالعزيز أموال جماعة من بنى أمية وردها إلى بيت المال وسماها أموال المظالم، وفى الوقت نفسه ألغى المُكوس (الضرائب الجائرة) وكان من نتائج هذه السياسة فى الحفاظ على المال العام أن تدفقت الأموال إلى خزينة بيت المال من موارد الدولة المتنوعة التى حافظ الولاة عليها.
حقوق الطير والبشر:
ورغم تقشفه على نفسه وزهده فى المال العام فإنه كان يرعى حق كل مواطن فى هذا المال ويغدق عليه منه حتى تقوم الدولة بمسؤولياتها تجاه أفرادها، وتحسين أحوالهم المعيشية، فكتب إلى ولاته ليقضوا عن الغارمين ديونهم.
وبلغ من حرصه على الرفق برعيته، واحترامه لحقوق الإنسان وخاصة ذوى الاحتياجات الخاصة أن جعل لكل أعمى قائدا يقوده ويخدمه، وخصص للمرضى والأيتام من يقوم بخدمتهم، كما خصص رواتب للعلماء وطلاب العلم والمؤذنين، وفكّ رقاب الأسرى، وقدم الأعطيات للسجناء مع الطعام والشراب، وحمّل بيت المال تكاليف زواج مَن لا يملك نفقاته، وفى عهده عم الرخاء وفاض الخير فى بيت المال حتى كان المنادى ينادى كل يوم: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ واغتنى كل هؤلاء ولم تعد لهم حاجة إلى المال، حتى قيل عن عهده: لقد أغنى عمر الناس، فلم يعد هناك من يقبل أخذ الصدقات.
واهتم عمر بن عبدالعزيز حتى بالطير والحيوان، فأمر مسؤول بيت المال بشراء الحبوب ونثرها على رؤوس الجبال حتى تأكل الطير منها فلا يبقى جائع من بشر أو حيوان.
ورغم ذلك كان عمر بن عبدالعزيز يرتجف من خشية الله خوفا من أن يكون مقصرًا فى حق رعيته، وقالت زوجته فاطمة: دخلت يومًا عليه وهو جالس فى مصلاه واضعًا يده على خده ودموعه تسيل على خديه، فقلت: ما لك؟ فقال: ويحك يا فاطمة، إنى قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت فى الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعارى المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب، والأسير، والشيخ الكبير، وذى العيال الكثير والمال القليل، وأشباههم فى أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربى عز وجل سيسألنى عنهم يوم القيامة، وأن خصمى دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا تثبت لى حجة عند خصومته.
إعادة تنظيم الدولة من الداخل:
حين تولى عمر بن عبدالعزيز الخلافة كانت الدولة الأموية بلغت أقصى اتساع لها فى الشرق والغرب، وكانت جيوشها تضيف للدولة بقاعًا جديدة، فكان من أهم أولوياته إعادة تنظيم الدولة من الداخل، والاهتمام بالإنسان ومراعاة حقوقه، واهتم بنشر الإسلام فى البلاد التى فُتحت أكثر من الاهتمام بالفتح نفسه، فحرص على إرسال الدعاة والعلماء أكثر من عنايته بإرسال الجيوش والحملات، ورشد حركة الفتوحات ووجّه هذه الأموال إلى العناية بالإنسان، وهذا يفسر أمره برجوع جيش مسلمة بن عبدالملك الذى كان يحاصر القسطنطينية، فأشفق على الجيش المنهك، كما أن عمره القصير فى الخلافة، وانشغاله بالإصلاح الداخلى لم يتح له القيام بفتوحات كثيرة.
تدوين السنة:
ومن أهم الأعمال التى اهتم وقام بها عمر بن عبدالعزيز أن الدولة الإسلامية فى عهده تبنَّت تدوين السنة رسميًا، فأرسل إلى الأمصار يأمر العلماء بجمع الأحاديث وتدوينها، وكتب لأهل المدينة: «انظروا حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاكتبوه، فإنى خفت دروس العلم، وذهاب أهله»، فظهرت المصنفات الكبرى فى الحديث وتنوعت مناهجها، لتبقى كتب السنة النبوية ينتفع بها المسلمون عبر الأجيال حتى الآن.
وفاته مريضا أم مسموما؟
اختلفت الروايات عن سبب وفاة عمر بن عبدالعزيز، ويذكر بعضها أنه توفى بسبب مرض السل، بينما تشير روايات أخرى أكثر ترجيحا إلى أنه مات مسموما، حيث أضمر عددٌ من أقاربه الحقد والضّغينة عليه بسبب إجبارهم على رد المظالم وإيداع المكاسب التى حصلوا عليها قبل خلافته فى بيت المال، وتجريدهم من الأموال والقصور التى امتلكوها دون وجه حق، فأوعزوا إلى غلام له ليدس له السم انتقاما منه.
وتوفى خامس الخلفاء الراشدين فى شهر رجب عام 101 هجريا بعد مرضه لمدة عشرين يوما، عن عمر ناهز أربعين سنة، وقيل إن روحه صعدت إلى بارئها وهو يقرأ: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».
وانتقل الخليفة العادل الزاهد المصلح بعد أن أعطى دليلا على أن قائمة الخلافة الراشدة ليست مقتصرة على الخلفاء الأربعة، بل هى قائمة مفتوحة لكل خليفة راشد يأتى من بعدهم، يقيم العدل ويرعى مصالح البلاد والعباد.