- علاقته باليهود والصهيونية بدأت بمولد أبو حصيرة ولو اختفت إسرائيل من على وجه الأوض أو تصالح معاها كل العرب سيظل ضد الصهيونية
واحدة من أمتع السير الذاتية التى يمكنك قرأتها هى السيرة الذاتية للدكتور عبدالوهاب المسيرى الذى أصدر كتاب «رحلتى فى البذور والجذور والثمر»، وربما يكمن السر فى جمال هذه السيرة الذاتية أن المسيرى لم يحاكم أحدا ولم يعارك أحدا، إنما عرض سيرته هو واستفاض فى إطلاعنا على شخصه ونشئته وتأثير هذه النشأة عليه، وكيف تحولت حياته وأفكاره، فربط بين مراحل حياته المختلفة وتأثيرها فكريا عليه التى نتج عنها أفكار ومواقف وإيمانا بقضايا، مؤكدا فى مقدمة الكتاب أنه يتناول رحلته الفكرية كمثقف عربى مصرى، قائلا: «هذه ليست قصة حياتى الخاصة زوجا أو أبا أو ابنا أو صديقا أو عدوا.. أحداث حياتى لا أهمية لها فى حد ذاتها، وإنما تكمن أهميتها فى مدى ما تلقيته من ضوء على تطورى الفكرى، فصفحات الكتاب هى قصة حياتى، أو رحلتى الفكرية كمثقف عربى مصرى، ترصد تحولاتى الفردية فى الفكر والمنهج، ولكنها تؤرخ فى الوقت نفسه لجيلى أو لقطاع منه، كما أن الجزء الثانى، هو محاولة لعرض بعض أفكارى الأساسية، كما تتمثل فى معظم أعمالى».
«رحلتى الفكرية من الجذور إلى الأعماق يتكون من جزأين يتناول المسيرى فى البداية البيئة التى ولد ونشأ فيها، حين ولد عام 1938 فى مدينة دمنهور، وكيف أن عبق التاريخ فى هذه المدينة كان يملأ عليه نفسه وترك أثرا عميقا فيه بعد ذلك، ثم يتذكر مرحلة تعليمه ومشاركته وهو طالب فى المظاهرات ضد الاحتلال الإنجليزى ثم انضمامه لحزب «مصر الفتاة» الذى كان يقوده الزعيم أحمد حسين فى أوائل الخمسينيات، ثم انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين لمدة عامين، ثم انفصاله عنها مع بداية ثورة يوليو 1952، وانضمامه للحرس الوطنى وهيئة التحرير ثم الحزب الشيوعى المصرى، فى نفس عام تخرجه من كلية الآداب جامعة الإسكندرية.
فى الفصل الثانى من الكتاب والمعنون بـ«بداية الهوية.. حلقات الانفصال»، يتناول المسيرى جزءا مهما جدا من حياته وهو بداية انفصاله الفكرى عن حياة أسرته، هذه الأسرة التى قررت العمل بالتجارة لتتحول إلى أسرة غنية بينما كان هو فى بداية معرفته بالماركسية، هذه المعرفة التى بدأت فعليا مع دراسته للفلسفة فى المرحلة الثانوية من تعليمه، وقد طرح عقل المسيرى سؤال بحث له عن إجابة وهو «ما أصل الشرور فى العالم، والحكمة من وجوده، وعندما فشل فى الحصول على إجابة لسؤاله قرر أن يترك الصلاة والصوم حتى يجد لسؤاله إجابة تقنعه، ثم بدأ يقرأ عن الماركسية والمادية، وانضم للحزب الشيوعى لكنه لم يصل، كما يؤكد فى مذكراته، إلى الإلحاد، والسبب أنه عندما انخرط فى صفوف الحزب اكتشف أن السلوك الشخصى لأعضائه كان متناقضا مع المثاليات الدينية أو الإنسانية، وأن بعضهم كان نرجسيا لدرجة كبيرة واكتشف أيضا وفقا لمذكراته أن كثيرا من الشيوعين انضموا للحزب نتيجة حقد طبقى أعمى، لا من إيمان بضرورة إقامة العدل فى الأرض، لهذا قدم استقالته من الحزب وابتعد عن الماركسية تماما.
فى الفصل الثالث من الكتاب والذى يحمل عنوان «مواجهة فكرية أولى»، ينتقل بنا الدكتور عبد الوهاب المسيرى من خلال مذكراته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ذهب للعمل على رسالة الماجيستر ومن بعدها الدكتورة فى الأدب الإنجليزى بنيويورك، ويقول المسيرى إنه اكتشف خلال هذه الرحلة أن التقدم الغربى هو ثمرة نهب العالم الثالث، والحداثة الغربية لا يمكن فصلها عن عملية النهب هذه، وأن نهضة الغرب تمت على حساب العالم كله، ومن خلال هذا الفصل يتناول المسيرى علاقته بالمجتمع الأمريكى قائلا: إن الحضارة المادية تجسدت فى هذا المجتمع بكل معانيها وهو الأمر الذى غير الكثير من قناعاته الفكرية حول المنهج المادى والمقولات الفكرية الحداثية التى جعلته يثق فى قدرته على التغيير وإقامة العدل على الأرض وفقا لهذه المعايير، فقرر العودة إلى مصر بعد حصوله على الدكتوراه عام 1969، وقرر أن يصبح ناقدا أدبيا، يربط الأدب بتاريخ الفكر، لكنه عندما حاول التأقلم مع المجتمع المصرى تعرض لهجوم «ذئاب ثلاثة» هى «الثروة والشهرة والمعلومات»، ويشرح المسيرى من خلال المذكرات كيف كانت هذه العوامل بمثابة ذئاب قائلا: إن الذئب الأول وهو ذئب الثروة والرغبة الكبيرة أن يكون ثريا، ووجد من السهل أن يتغلب على هذا الذئب مستعيضا عن الثروة بالحكمة والعلاقات الإنسانية الدافئة قائلا: إنه يرى أن المال يشكل عبئا على البعض، وهم الذين يفنون حياتهم فى جمعه، أما بالنسبة إليه فإن المال حرية، وقد نجح إلى حد كبير فى أن يوظف المال بدلا من أن يوظفه المال.
الذئب الثانى الذى تحدث عنه المسيرى فى مذكراته وهو ذئب الشهرة، أى الرغبة العارمة فى أن يصبح من المشاهير، فعندما عاد من أمريكا عام 1969 كان يكتب فى صحيفة الأهرام ويتحدث فى الإذاعة والتليفزيون، كما كان مسؤولا عن وحدة الفكر الصهيونى فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، فلم يكن بحاجة إلى الإحساس برغبة أكثر من ذلك فى الشهرة، لكن فى العام 1979 والذى أطلق عليه المسيرى فى مذكراته زمن «التطبيع» هاجمه الذئب مرة أخرى، بعد أن فقد مكانه فى مركز الأهرام وفى الإذاعة والتليفزيون والصحافة لكنه فى النهاية استطاع ترويض هذا الذئب، أما الذئب الثالث فكان ذئب المعلومات، وقد وصفه المسيرى بأنه ذئب خاص جدا، يعبر عن نفسه فى الرغبة العارمة فى أن يكتب كتابا نظريا، ووفقا للمذكرات يرى المسيرى فى نفسه أن إطاره النظرى واسع وشامل للغاية، لكنه فى الوقت ذاته يتكامل مع أكبر قدر ممكن من المعلومات والتفاصيل.
علاقة الدكتور عبدالوهاب المسيرى باليهود واليهودية كانت علاقة عميقة ووطيدة، فقد تخصص المفكر الراحل فى الصهيونية وكتب فيها العديد المقالات وصولا إلى كتابة أكبر موسوعة عن اليهود والصهيونية، قائلا فى مذكراته أن هذه العلاقة كانت لها جذور قديمة بدأت من «مولد أبو حصيرة» الذى يحتفى به اليهود بالقرب مدينة دمنهور فى مولد يقام كل عام، وأثناء وجوده فى أمريكا تعرف على إحدى زميلاته فى الدراسة وسألها عن جنسيتها فقالت إنها يهودية، فأخبرها أنه يسأل عن جنسيتها لا عن دينها، فكررت نفس الإجابة، وهنا بدأ يبحث عن تفسير لإجابتها، يقرأ بشراهة عن الصهيونية واليهودية واليهود والإسرائيليين، ووفقا لحديثه فى المذكرات فإنه عندما غادر أمريكا وعاد إلى مصر كان عقله قد أدراك وثنية الصهيونية وبدائيتها وواحديتها الهستيرية وانتمائها إلى التقاليد الحضارية الغربية»، وعرف أن «وحشا» صهيونيا معرفيا بداخله، فقرر التخصص فى دراسة الصهيونية التى بذل من أجلها العديد من الصعوبات، منها كما يذكر فى مذكراته أن أحد المواقف العصيبة فى حياة موسوعته الشهيرة «اليهود واليهودية والصهيونية»، هو أن كل مراجعه وأوراقه ونسخة الموسوعة الوحيدة كانت فى الكويت أثناء اجتياح العراق لها عام 1990، بينما كان هو فى القاهرة، فقرر السفر للكويت أثناء الاجتياح وظل بها لمدة ثلاثة أسابيع، حتى اتفق مع مجموعة من أصدقائه على استئجار شاحنة «تريللا» حملت أوراق وأصول الموسوعة فى «حوالى 30 صندوقا»، وذهبت بها إلى بغداد ثم إلى عمان بالأردن ثم إلى القاهرة، لتصدر بعد نحو ثمانى سنوات فى ثمانية مجلدات ضخمة، قال فيها الكثير عن اليهود واليهودية والصهيونية.
وفى مذكراته يقول المسيرى: إن المجتمع الإسرائيلى ليس مجتمعا عنصريا وحسب، ولكن قوانينه أيضا عنصرية، موضحا أنه لم يعرف الصهيونية من منظور عربى ولا من منظور توراتى يهودى وإنما من منظور عالمى كجزء من التشكيل الحضارى فى الغرب، مؤكدا أن عداءه للصيهونية ينبع من عدائه لكل أيديولوجيات العنف والعنصرية، وأنه حتى لو اختفت إسرائيل من على وجه الأرض أو تصالح معها كل العرب سيظل عدائى للصهيونية كما هو، معلنا اتفاقه الكامل مع القرار الذى أصدرته هيئة الأمم المتحدة فى السبعينات الذى يعتبر الصهيونية حركة عنصرية، لدرجة أن يرى أن الهولوكوست الذى تعرض له غجر ويهود فى أوروبا جزء من التاريخ الأوروبى، ويعتبر تجربة أوروبية خاصة ولا يمكن إعتباره تجربة يهودية عامة.
فى الفصل الرابع من المذكرات والذى يحمل عنوان «من بساطة المادية إلى رحابة الإنسانية والإيمان»، يعرض المفكر الكبير الدكتورعبد الوهاب المسيرى تجاربه مع الدين والهوية والمادية والإنسانية والفرد والفرق بين الروحى والمادى، وعلاقة العلم بالتقدم وعلاقة الإيمان بالإنسان، وهنا يقول المسيرى عن تجربته وما توصل إليه فى الحياة كان ناتجا عن أنه وضع جهازه العصبى فى ثلاجة لمدة ربع قرن، كنت أتباهى أثناء ذلك بأننى أنظر إلى الحاضر بنظرة مؤرخ، فولد الإيمان بداخلى من خلال رحلة عقلية طويلة ناتجة عن تأمل عقلى لم تدخل عليه عناصر روحية، فولد إيمان يستند على إحساس بعجز المقولات المادية عن تفسير ظاهرة الإنسان، وضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكتر تعقيدا فاكتشف أن الدين الدين جزء من الكيان والهوية.