عباس العقاد.. معركة "الأنا" وصور الإنسان الثلاثة.. وصف النفس البشرية بالطيور المهاجرة ولا يمكن للإنسان معرفة ذاته إلا بعد أن يضل الطريق مرات.. قال فى مذكراته: «هناك عباس يعرفه الله ولا أعرف عنه شيئًا

-كرامة الفرد فى المجتمع كانت قائمة على أصنام «الغنى والمنصب والألقاب» فتجاهلتهم وحصلت على كرامتى الإنسان ثلاثة أشخاص فى صورة واحدة، هناك الإنسان كما خلقه الله، والإنسان كما يراه الناس، والإنسان كما يرى هو نفسه، لم يجد المفكر الكبير عباس عقاد، رحمة الله عليه، مقولة أبلغ من هذه للكاتب الأمريكى «وندل هولمز» ليستهل بها مذكراته الشخصية التى كتبها بعنوان «أنا»، وتساءل فيها «مَن من هؤلاء الأشخاص الثلاثة هو المقصود بعباس العقاد؟، ومن قال إننى أعرف هؤلاء الأشخاص الثلاثة معرفة تحقيق أو معرفة تقريب؟!، من قال إننى أعرف عباس العقاد كما خلقه الله؟، ومن قال إننى أعرف عباس العقاد كما يراه الناس؟، ومن قال إننى أعرف عباس العقاد كما أراه، وأنا لا أراه على حال واحدة كل يوم؟، هذه هى الصعوبة الأولى، ولا أتحدث عن غيرها من الصعوبات، وبالطبع لن أتحدث عن عباس العقاد كما خلقه الله، فالله عز وجل هو الأولى بالسؤال عن ذلك، ولن أتحدث أيضًا عن عباس العقاد كما يراه الناس لأنهم بطبيعة الحال هم المسؤولون عن ذلك، ولكن سأتحدث عن عباس العقاد كما أراه، وفى كتابه «أنا» يتعمق العقاد فى ذاته وتكوينها، لا يشغله سواها، فيعود إلى البدايات ليسرد تفاصيل حياته الشخصية منذ البداية، بما فيها صفات وخصائص ونشأة وتربية ومبادئ وعقيدة وإيمان، ثم حياته الأدبية والسياسية والاجتماعية المتصلة بمن حوله، كما شمل «العقاد» الإنسان، وحياته النفسية والشخصية، أضخم من أن يجمعها كتاب، فهو يستعرض الأب والأم والبلدة وذكريات الطفولة والأساتذة وانطلاقه فى المجال الفكرى والأدبى والثقافى وإيمانه وفلسفته. يبدأ العقاد سيرته الذاتية «أنا»، برؤيته لنفسه وكيف يعرفها قائلًا إنه شىء آخر مختلف كل الاختلاف عن الشخص الذى يراه الكثيرون من الأصدقاء أو من الأعداء، قائلًا «الشخص الذى يراه الناس فى العقاد أستغربه كل الاستغراب حين أسمعهم يصفونه أو يتحدثون عنه، حتى ليخطر لى فى أكثر الأحيان أنهم يتحدثون عن إنسان لم أعرفه قط، ولم أَلْتقِ به مرة فى مكان، هنا يطرح العقاد سؤالًا مهمًا ومعقدًا وهو «هل يعرف الإنسان نفسه؟»، ثم يجيب بكل حزم، كلا، بغير تردد، فلو أنه عرف نفسه لعرف كل شىء فى الأرض والسماء، إنما يعرف الإنسان نفسه بمعنى واحد، وهو أن يعرف حدود نفسه حيث تلتقى بما حولها من الأحياء أو من الأشياء. والفرق عظيم بين معرفة النفس ومعرفة حدودها؛ لأننا نستطيع أن نعرف حدود كل مكان، ولكن لا يلزم من ذلك أن نعرف خباياه، وخصائص أرضه وهوائه، وتاريخ ماضيه، ولو قسنا كل شبر فى حدوده. وحتى هذه المعرفة بالنفس والتى تبدو حقيقية، قد تتوه فى الحياة، فالإنسان قد يستغرق زمنًا حتى معرفة نفسه على حق، وهنا يصف فى مذكراته «أنا» النفس البشرية بالطيور المهاجرة التى تلتمس طريقها فتضل الطريق مرة أو مرات ثم تعرف طريقها، كذلك هو الإنسان فى بداية حياته، قائلا فى الفصل الرابع من مذكراته أن هذا ما حدث معه بالتحديد فى أوائل صباه، بين المناهج المختلفة التى اعتقد أنه مهيأ للمسير عليها بالفطرة وهداية الظروف، قائلا «خطر لى فى مبدأ الأمر أننى مهيأ لحياة الجندية وأننى أبلغ أمنيتى من الحياة إذا بلغت مرتبة القيادة فى جيش مصر، وطردت جيش الاحتلال، وبين زملائى فى الدراسة من يذكر هذه الأمنية أو هذه الطليعة، ومنهم الأستاذ سيد جودت المهندس الكبير، واللواء محمود عسكر الذى اتجه دونى إلى الحياة العسكرية، وترقى فيها إلى غاية الدرجات التى يرتقى إليها الضابط المصرى قبل سن الإحالة إلى المعاش، ثم خطر لى أننى خُلِقت لدراسة علوم الزراعة والحيوان، فاقترحت على والدى أن أتمم الدراسة فى كلية الزراعة العليا بدلًا من التوظف بدواوين الحكومة، ثم علمت يقينًا أننى خُلِقت للأدب ولم أخُلَق لغيره، وأن التفاتى إلى الجندية والزراعة إنما كان التفاتًا للأدب من طريق آخر: طريق الإنشاد الحماسى قبل المبارزة، وطريق الشغف بالأزهار وعامة الأحياء. أنا رجل مؤمن أحب الله، هكذا يرى عباس محمود العقاد فى نفسه قائلا فى مذكراته أنه نشأ فى بيت مؤمن، كان يؤدى الفروض، وكان والده رجلا صارما تماما، أراد لابنه أن يواظب على الصلاة فى أوقاتها قبل سن العاشرة، ولم يكن الأمر صعبا على العقاد إلا «صلاة الفجر»، حيث يقول «كان أثقل ما أعانيه فى ذلك يقظة الفجر فى الشتاء، وهو الوقت الذى يرين فيه النوم على الأطفال، فلا يستيقظون إلا بعد جهد عنيف، وصبرت على هذا الجهد العنيف مرتين أو ثلاث مرات أو أربع مرات، ثم تمردت، اذهب عنى، فلست بالمستيقظ، ولست بالمصلى» وسمع أبى ما قلت فصاح بى، فقال لن تصلى فذهب بى الإصرار مذهبه، وقلت «نعم»، فصمت ولم يزد، وأعرض عنى أيامًا لا يكلمنى حتى تناسينا هذا الخلاف، وكنا مع ذلك نجلس إليه جميعًا على الطعام فى الصباح والمساء، وأحيانًا فى طعام الغداء، وهنا يعلق العقاد أن المسألة لم تكن فى عدم رغبته فى الصلاة أو أداء الفرائض الدينية وإنما الاستيقاظ من النوم لصلاة الفجر. لم يكتف العقاد بسرد علاقته بالدين فى هذا الجزء من المذكرات وإنما ذكر أيضًا تحت عنوان «ماذا أحب أن أكتب» تعلقه بالدين عن طريق دراسة تاريخ النبوءات، كما ربط بين نزول الرسالات السماوية وبين نفوس أهل الأماكن التى نزلت فيها الرسالة، قائلا إن الديانات السماوية الثلاث ظهرت فى الشرق الأوسط بين الأمم السامية، مفسرًا ذلك بأن النبوة لم تكن لتظهر فى بلاد الدول المتسلطة؛ لأنها تخضع فى شرائعها وآدابها لقوانين السلطان، وعرف الكهان، ولم تكن لتظهر فى الصحراء؛ لأنها تخضع لقوانين النار والعصبية، ولكنها تحتاج إلى بيئة تجمع بين أحوال الدولة وأحوال البادية، وهى مدينة القوافل التى تعرف المعاملات العامة والمصالح المختلفة والشرائع التى تقوم على حقوق المتعاملين غير مقيدين بسياسة السلطان ولا بعصبية القرابة، وفيها تتعرض الأخلاق للفتنة والغواية لكثرة المتقلبين على المدينة من المترحلين المتنقلين، وكثرة طلاب الكسب والارتزاق، حيث تروج التجارة وتروج دواعى اللهو والمتعة، وفى هذه البيئة تتهيأ الأحوال النفسية والاجتماعية لظهور هداة الأديان ودعاة، ولهذا ظهر إبراهيم فى مدن القوافل بين الفرات وبعلبك فى سوريا وبيت المقدس فى فلسطين، وظهر موسى فى مدين وما حولها، وظهر المسيح فى الجليل، ثم فى بيت المقدس، وظهر نبى الإسلام فى مكة بعد أن ظهر أنبياء العرب حيث تقوم العلاقات وسطًا بين شريعة الدولة وشريعة البادية. عن نفسه يقول عباس محمود العقاد فى «أنا»، كثيرا، ويصف نفسه بالعديد من الأوصاف، فمثلا يؤكد أنه شخص منعزل وانطوائى، قائلا «أنا مطبوع على العزلة والانطواء على النفس فى أحسن الأحوال وأسوأها على السواء، ولا حيلة لى فى ذلك؛ لأن أسبابه عميقة، يرجع بعضها إلى الوراثة، وبعضها إلى الطفولة الباكرة، وبعضها إلى تجارب الدنيا التى لا تُنسَى، كما قال عن نفسه إنه لا يميل إلى التوسط فى الصداقة ولا فى العداوة، فلا أعرف إنسانًا نصفه صديق ونصفه عدو، وإنما أعرفه صديقًا مائة فى المائة، أو عدوٍّا مائة فى المائة، ولا تهمنى مع ذلك عداوته إذا حفظها لنفسه ولكنه إذا تعقبنى بها وأبى إلا أن يكشف عنها فهى الحرب التى لا توسط فيها كذلك: إما كاسر وإما مكسور، إلا أن يريحنى احتقاره من عناء هذا وذاك، كما ذكر من صفاته الألفة، أو العادة قائلا أنه لا يقدم على التبديل إلا بعد عناء طويل، ومثال على ذلك أن البيت الذى كان يسكنه قد تغير له أربعة من الملاك، وأنا الساكن فيه لا أتغير. وإننى فى مصر الجديدة، ودكان حلاقى فى شارع محمد على إلى الآن؛ لأننى منذ عشرين سنة كنت أسكن هناك». ويضيف العقاد أن بعض الناس يصفونه بالكبرياء، وهو الأمر الذى يعذرهم فيه، قائلا «أراد الله وله الحمد أن يخلقنى على الرغم منى متحديًا لكل تقليد من التقاليد السخيفة التى كانت ولا تزال شائعة فى البلاد المصرية والبلاد الشرقية على العموم، وأنا أطلب الكرامة من طريق الأدب والثقافة، وأعتبر الأدب والثقافة رسالة مقدسة يحق لصاحبها أن يُصان شرفه بين أعلى الطبقات الاجتماعية، بل بين أرفع المقامات الإنسانية بغير استثناء»، قائلا «عالم الأدب فى هذا الشرق المسكين الذى كان أدباؤه لا يرتفعون عن منزلة المضحكين، والندماء المهرجين على موائد الأغنياء والرؤساء، فإذا ارتفعوا عن هذه المنزلة قليلًا أو كثيرًا، فهم لا يرتفعون بفضل الأدب والفن، بل بفضل وظيفة يعتصمون بها، أو شهادة علمية ينتحلون سمعتها، أو ثروة يُحسَبون من أهلها، ثم يُحترَمون لأجلها على الرغم من كونهم كتابًا وشعراء!، وها هو ذا إنسان يعرف حقه فى الكرامة، ولا يعرف حقٍّا لتلك الأصنام الاجتماعية تفرضه عليه، وهى صنم المال، وصنم العناوين العلمية، والشارات الرسمية، وصنم المناصب، وصنم الألقاب»، موضحًا فى مذكراته أنه تحدى هذه الأصنام استغنى عن الغنى وسيعرفه العالم حتى تلهث وراءه الألقاب، وبالفعل استطاع العقاد أن يحصل على كرامته من خلال المعرفة والفكر والقراءة.










الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;