موهبة كبيرة لم تأت من فراغ، ورغم أنها قررت التوقف عن نشاطها الفنى قبل سنوات طويلة، فما زالت حاضرة فى ذاكرة أجيال عديدة من المستمعين، بل ويعرفها كثيرون من الأجيال الجديدة، ولا يرى أى منهم تعارضا بين شخصية الداعية والحاجّة التى تدير جمعية خيرية واسعة الانتشار والتأثير، وشخصية الفنانة ياسمين الخيام ابنة الشيخ الجليل وأبرز قراء القرآن فى عصره الشيخ محمود خليل الحصرى.
قضت ياسمين الخيام سنوات فى العمل الفنى، وعقودا فى العمل الدعوى، وفى كل منهما كانت متميزة وذات بصمة خاصة جدا لا تشبه أحدا، فيمكنك استحضار أغنياتها المختلفة لتكتشف أنها شقت طريقا خاصة لا يستجيب للوسط وشروطه وقتها، ويمكنك تتبع جمعيتها وأنشطتها لتعرف أنها تعمل فى صمت وبجهد عظيم على عكس عشرات الجمعيات الأخرى، لكن حصيلة السنوات التى قضتها فى النشاطين، وفى غيرهما من الأنشطة، تمثل الجانب الأهم فى شخصيتها.. الفتاة الموهوبة والمثقفة والفنانة والداعية وفاعلة الخير، التى خرجت فى تُربة الشيخ الحصرى وحقله الأخضر، وتحفظ عنه كثيرا من القصص والحكايات والمآثر، التى تُشكل جانبا من روح وحكاية أحد أنجب قراء القرآن وسدنته فى العصر الحديث.. عن أمور الفن والدعوة والشيخ الحصرى، كان لنا معها هذا الحوار.
انطلقت فى ممارسة الدعوة من الوسط الفنى.. هل كان الأمر عائدا إلى أنك تعرفين هذا المجتمع أم أنك ترينه أكثر احتياجا للدعوة؟
أنا فتّحت عينى على صالون ثقافى فى بيتنا، وكان أبى يستقبل فى صالونه عشرات العلماء والشيوخ الأجلاء، فكان يستقبل شيخ الأزهر الذى كان له كرسى كبير خاص لا يجلس عليه إلا الإمام الأكبر، كما كان يستقبل علماء ووجهاء ومثقفين وشخصيات عامة، وكنت أجلس تحت قدمى شيخ الأزهر لأسمع وأتعلم، فتربيت تربية خاصة على الفكر الصحيح، وكان المجلس يُعقد كل يوم جمعة بعد الصلاة، ويشهده حشد من كل أطياف المجتمع، ومر عليه الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت، والإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود، وتلامذتهما، والشيخ الشعراوى والشيخ الغزالى وكثيرون غيرهم.
كيف كنت تجالسين العلماء بينما تحرم الجماعات الدينية الاختلاط وظهور النساء فى مجالس الرجال؟
لم يكن الأمر متجاوزا للاشتراطات الدينية، فكنت أجلس مُحتشمة، ولم تكن خلوة حتى يكون الأمر محرما أو مكروها، بل يجلس العلماء ويجلس أبى، الذى كان يستدعينى لحضور تلك المجالس حتى أسمع وأستفيد وأتعلم من قامات العلم وآرائهم، وكيف يناقشون قضايا المجتمع وأحوال الناس، وما يُحرّمه هؤلاء هى الخلوة غير الشرعية لرجل وامرأة بسبب أنه لا تُؤمن الفتنة، أما كل العلماء فيرون أن هذا الأمر اختلاط لا يُخالف الشرع، لأنها جلسة منضبطة وأنا محتشمة.
السيدة عائشة وأمهات المؤمنين كُنّ يُعلمن المسلمين أمور دينهم، وقال النبى «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء»، فكيف تعلمت الدين وعلّمته إن لم تكن سمعت فى مجالس النبى ومع المسلمين، وهذا أمر مشهود، فالاختلاط يحكمه الوقار والحشمة والزى الإسلامى، والمجتمع يشهد اختلاطا طبيعيا فى مناحى شتّى، ففى المدارس ومؤسسات التعليم مثلا تتولى امرأة تعليم أولاد، فالمحرّم الخلوة فقط، والمتنطعون والمُنفّرون أساءوا للمرأة، بينما ديننا دين سماحة ورحمة، والنبى قال «لن تؤمنوا حتى تحابّوا، ولن تحابوا حتى تُفشوا السلام بينكم»، ويُقصد بالسلام السلام الاجتماعى والمودة والرحمة والألفة والكلام الطيب قبل كل شىء، وليس الشائعات الخبيثة.
لا يعرف كثيرون عن الشيخ الحصرى إلا أنه كان قارئا للقرآن.. فكيف كانت تراه ابنته؟
الشيخ كان مُثقفا مُطلعا على العلوم والفنون والآداب، وكان اجتماعيا ودودا يهتم بالشأن العام وقضايا الناس وأحوالهم، فكان يُهنّئ الإخوة الأقباط فى أعيادهم ببطاقات وخطابات، وكان يُبدى آراءه فى القضايا ذات الأهمية، كأن كتب ردًّا على بعض الإساءات الفنية لشخصية عالم الدين، وكان يُرسل خطابات تأييد مُدعمة بآراء شرعية لجنودنا على الجبهة، حتى يُحفزهم على الثبات والتربص بالعدو ومواجهته وتحرير الأرض، وكان مُعلّمًا للكتاب وقارئا وخبيرا فى القراءات، وله مؤلفات عديدة عن آداب التلاوة وأحكامها، وكيفية الإتقان، وشغل مناصب كبرى ومتعددة للاستفادة من خبراته، فى مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، ولجنة طبع ومراجعة المصحف الشريف التى ترأسها، كما كان شيخا لعموم المقارئ المصرية، ومستشارا فنيا لوزارة الأوقاف، ورئيسا للمقارئ على مستوى العالم، وأفضل قارئ لمسجد الإمام الحسين، وقد ألّف كتابًا عن أسفاره وأحوال البلدان التى زارها وظروفها وسكانها وأحوالهم، فلم يكن دائما بعيدا عن الناس أينما كانوا، وأينما كان هو.
وهل كانت للشيخ أية علاقة بالعمل العام والنشاط السياسى؟
كانت للشيخ أدوار عديدة فى خدمة الشأن العام والأمور الدينية والثقافية، فمثلا ارتبط اسمه بتأسيس إذاعة القرآن الكريم لتكون أول إذاعة متخصصة وأول عملية جمع كاملة للمصحف المقروء.
وبدأ الأمر عندما وجد الشيخ خلال زيارته لدولة الكويت نسخة مُحرّفة من القرآن الكريم، وعلم أن بعض الصهاينة تعمّدوا تحريف الآيات التى تصف خبثهم ومكرهم، فعاد مشحونا ليكتب مقترحا بتسجيل المصحف الشريف صوتيًّا للمرة الأولى فى التاريخ الإسلامى، حتى يستحيل تحريفه والتلاعب فى آياته، وعُرض الأمر على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذى وافق على الفور ورحّب بالفكرة، ثم قرّر إطلاق إذاعة خاصة لإنجاز تلك المهمة والعناية بكتاب الله وتسجيله ثم بثّه وإذاعته بانتظام، لردع المخربين والمُحرّفين، وتأصيل القرآن عند الناس، وبدأ الأمر ببث القرآن عبر إذاعة البرنامج العام لحين انتهاء تأسيس وتجهيز ستوديوهات إذاعة القرآن الكريم، وبعدما انتهى الشيخ الحصرى من تسجيل ثُلث القرآن عرض تسجيل الثلثين الباقيين بأصوات باقى العلماء، وبدأت مشاورات مع شيخين آخرين لكنهما طلبا مبالغ باهظة، فقال لهما الشيخ كنت أترك لكما فرصة للثواب وعموم الأجر وتنوّع الأصوات فى هذا الحدث الجليل، لكننى مستعد لاستكمال تسجيل باقى القرآن بدون أجر، وبالفعل أكمل التسجيل مجانًا، وهنا لا بد من أن أذكر ما حدث وموقف الرئيس عبد الناصر الذى انتصر للقرآن، بموافقته على فكرة تسجيله وتأسيس شبكة تعمل على خدمته، وقد ظلت إذاعة القرآن الكريم تذيع التلاوة فقط دون أية برامج لسنوات عديدة، ولا أنسى أن الرئيس عبد الناصر كان يُصرّ على اصطحاب الشيخ الحصرى فى كل أسفاره إلى دول العالم، وأثناء لقاءاته بالزعماء داخل مصر، كما كان للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية دور فى الإشراف على تسجيل المصحف المرتل، وطبع كتب الشيخ الحصرى لنشر الثقافة وخدمة كتاب الله تعالى.
هل كان للشيخ موقف من التصنيفات والجماعات التى اختطفت الدين؟
لم يواجه فضيلة الشيخ الحصرى تلك المسألة، لأن الأمر لم يكن بالصورة الحالية، فوقتها لم نعرف اللغط المنتشر حاليا، وتقريبا لم تكن تلك التصنيفات حاضرة. كان كل واحد عارف دوره ولا يتعدّاه، ويعرف مهمته جيدا وحدوده وحقوق الآخرين، فالإسلام ليست فيه تلك الشواهد والتصنيفات الغربية التى تزداد اتساعا وشقاقا، والشيخ الحصرى له صور مع الشيخ عبد الحليم محمود والشيخ الغزالى والشيخ المشتهرى والشيخ سيد سابق، وكل منهما له فكره واهتماماته ويعرف دوره جيدا بدون تصنيفات، لكن الآن كل واحد متصنّف، ده صوفى وده سُنّى، وهذا التشتيت والتحزب والتفرقة يُستخدم فيها بعض الجهلاء بهدف زرع الانقسام وضرب الإسلام.
هل تعرضت لمحاولات استقطاب من تلك التيارات والجماعات؟
تربيت على أيدى علماء ثقات وشيوخ أجلاء من رجال الأزهر، وعلى قاعدة علمية صحيحة وقوية، ومن تربى بهذا الشكل يعرف الدين الوسطى، ولا يمكن استقطابه، لذا أرفض التصنيف والتفرقة والتحزب، ومن يُصنّف يقصد تفريق الناس وتشتيتهم، وقد تجد من يقول لك «فلان حبيبى، وأنا أعرف فلان وأنت لا تعرفه» فماذا تفعل إذن، وأستغرب ممن يُسمّون أنفسهم بـ«كذا» المسلمون، فهل مَن دونهم ليسوا مسلمين؟! تلك مسميات دخيلة، وقد تربيت تربية جيدة، فى بيت كويس وعارف دينه وبلده كويس، وبيحب دينه وبلده، والنبى بكى عند مغادرته مكة فى الهجرة، من شدة حبّه للوطن ومكّة التى آذته وخرج منها مكرها، فحب الوطن من الإيمان، وأعظم النعم أن تبيت آمنًا فى سربك، أى فى وطنك، مش تخرّب وتدمّر وتقول من الإيمان، فالإسلام وكل الأديان ضد التخريب والدمار، ودور المسلم التعمير والبناء لا التخريب والدمار.
قال البعض إنك كنت سببا فى تحول اهتمامات بعض الفنانات إلى الأمور الدينية!
لم أُركّز يومًا على فئة معينة فى خطابى الدعوى، ولم أستهدف الوسط الفنى أو الفنانات بشكل خاص، لكننى كنت أجلس فى دروسى بالمسجد مستعدة لاستقبال الجميع، وأبواب المسجد مفتوحة لكل الناس من البسطاء والفنانات بدون تفرقة، فلم نخص فئة بالذكر أو الاهتمام، لكن الأساس هم البسطاء لأن النبى كان يقول إنما تُنصرون بضعفائكم، ويكفينى أننى لم أمارس الإفتاء ولم أتدخل فى السياسة، وانشغلت بالشأن العام والخدمة ومصالح الناس، وفى جمعية الحصرى نقدم خدماتنا لكل فئات المجتمع، لم نفرق بين أزمة البوسنة والهرسك، أو حرب لبنان والعراق، أو لاجئى سوريا، أو كفالة الأيتام ومساعدة الفقراء.
كيف ترى الفنانة ياسمين الخيام والدها شيخ القراء محمود خليل الحصرى؟
الشيخ الحصرى عالم ومُعلم وخبير فى التلاوة والقراءات، ولم يكن «فِقِى» ممن يتكسّبون بالقرآن دون وعى وتدبّر، بل كان يتدارس كل كلمة فى كتاب الله، وكان يحترم القرآن ويستشعر جلاله، وقد اختاره الله لتلك الرسالة منحة ربانية. كُنت قريبة منه جدًّا بحكم كونى ابنته الكبرى، وأعلم عنه كثيرا من المآثر، فالشيخ الحصرى له مواقف لم تتكرر مع آخرين، منها أنه كان أول من سجّل المصحف المُرتّل، وأول من وثّق كتاب الله كاملا بصوته، وأول من سجّل القرآن الكريم بصوته ورتّله داخل الحرم المكى من خلال الميكروفون، حينما جرى تطوير الحرم وإدخال أجهزة الصوت إليه، ووقتها طلب ملك السعودية أن يكون الحصرى أول من يُرتّل القرآن ويَؤمّ الحرمين، ويومها أعطى إجازة تلاوة لإمام الحرمين وأعلام التلاوة فى العالم، كما كان الشيخ أول من قرأ القرآن فى افتتاح جلسة بالأمم المتحدة، وفى العام 1973 لقّن الشهادة لـ80 أمريكيا أشهروا إسلامهم على يديه بعد سماعهم لتلاوته، ولم ينقطع عطاؤه للعالم منذ 1917 حتى وفاته فى العام 1980، بل استمر بعد رحيله بتنفيذ وصيته وتوجيه ثُلث تركته للأعمال الخيرية من خلال الجمعية الخيرية التى تحمل اسمه وأصبحت من أشهر الجمعيات فى مصر، وتقدم خدمات عامة للجميع من المصريين والعرب والأفارقة.
مفتى الجمهورية السابق على جمعة يقول أحب الحصرى لأنه مؤدب مع القرآن.. كيف ترين تلك العبارة؟
تعبير فضيلة الشيخ على جمعة يقصد أن الشيخ الحصرى كان عالما جليلا يُدرك ما للقرآن من جلال ووقار، ويقر بوجوب التأدب مع كتاب الله. وقد كان والدى يتدبر معانى القرآن فى كل حرف وكلمة، وكانت حياته مُسخّرة لخدمته ليل نهار، ولا أعرف من أين كان يأتى بوقت لإنجاز كل مهامه وأعماله المتعددة، ومجالس العلماء والمثقفين فى بيته الذى ظل مفتوحا لكل أطياف المجتمع، وبعد ذلك كله كان يأتى آخر اليوم ليجالس أبناءه ويسأل كل واحد فيهم عن أحواله، ويراجع ما حفظوه من كتاب الله ليطمئن عليهم، وكان يبحث فى كل شىء ويطبق فيه كتاب الله، لدرجة أنه كان يعطى المحتاج حقّه داخل مُصحف، فلما سألته لماذا، قال: حتى لا يعلم الناس ما داخله، وربما وهو يفتح المصحف كى يأخذ ما فيه تقع عينه على كلمة من كلام الله وتكون سرّ سعادته، ومن حبى لتلك الشخصية ومآثرها وأفضالها أسست معرضا لمقتنياته، ونفّذت وصيته بوقف ثُلث ثروته على أعمال البر والخيرات، فقد كان مُحبًّا للجميع ومعطاء لكل من حوله، إلى درجة أن كل أقاربه وعائلته أدوا مناسك الحج بصحبته وعلى نفقته.