-الموسيقى كالقرداتى .. لهذا السبب قال إنه مدرس بعد أن رفض المأذون تزويجه
استطاع قبل أن يتم العشرين من عمره أن يفرض نفسه على الوسط الفنى كملحن، ولم يكن كغيره من الملحنين، بل كان قائدا لثورة تجديد فى التلحين واستطاع أن يتفوق على جيل كامل ممن سبقوه.. سيد درويش المعروف بفنان الشعب، الذى سار على نهج الملحنين القدماء فتفوق عليهم، لحن الموشح فجاء بالعجب، ولحن الدور فأبدع، ولحن الطقطوقة فأشجى الناس، واستطاع أن يفتح مجالا جديدا فى النغم والألحان بعد أن تجلى فى كل ما يقدمه على العود، ولك أن تتخيل كل هذا الإبداع يخرج من رجل لم يكمل من العمر الثلاثين، فقد مات وكان عمره تقريبا واحد وثلاثون عاما، وهنا نتعجب أن كل هذا الفن والإبداع قدمه فى سنوات قليلة، متسائلين ماذا لو أراد الله لسيد درويش المزيد من العمر، لكن المؤكد أن الشيخ سيد لم يحيا خلال هذه السنوات القليلة جدا حياة هنيئة، فقد ولدت موهبته الفذة من رحم المعاناة، وأدرك جيدا معنى الشقاء فى الحياة، فقد اكتوى درويش بنار الحب وبنار السياسة وبنار الفقر وبنار الاحتلال، فعرف معنى المثابرة والوصول للأحلام بالعمل الجاد والجهد، وامتزجت هذه المثابرة الناتجة عن الشقاء مع موهبته، فأدرك ونضجت تجربته مبكرا، وصبر على المحن فذاق فى النهاية القريبة جدا حلاوة ما أشجى به قلوب المصريين.
فى كتاب «من أجل أبى»، والذى كتبه حسن درويش نجل الفنان العبقرى سيد درويش والذى يتناول فيه قصة حياته كما عاشها وعرفها مع والده، المحن التى مر بها، نشأته فى حى فقير بالإسكندرية ولعنة الاستعمار التى حلت على البلد وتأثيرها عليه، ثم حياته العاطفية وقصص حبه، وعلاقته بأهل الفن والتلحين فى مصر والشام التى سافر إليها فترة وعاش بضع سنوات قبل وفاته، وهنا يقول حسن درويش فى كتابه إن الشيخ سيد قد نالته نار الغيرة من أقرانه الملحنين وحسدوه وهاجموه ووصل بهم الإسفاف إلى أن البعض نعتوه بالمهرج والمسخرة، ولم تقف معاناته فى الحياة عند هذا الحد فقد أراد سيد درويش حقه الطبيعى من الحياة بالزواج، وعندما سأله المأذون عن عمله أجابه درويش «موسيقى»، فرفض المأذون إبرام العقد ولاح فى وجهه، لأن الموسيقى وقتها «وحسب حديث حسن درويش فى الكتاب»، كان مثله مثل القرداتى، وعندما رفض المأذون كتابة العقد تحايل سيد درويش على الأمر وأخبره أنه كان يمزح وأن عمله الحقيقى هو التدريس، وهنا قام المأذون بكتابة الكتاب، ويسرد المؤلف فى الكتاب العديد من القصص الأخرى عن سيد درويش وحياته ومعاناته، لكن هنا سنتوقف عند قصة رصدها حسن درويش بطريقة غير التى عرفناها.
القصة هى حكاية دور لسيد درويش والمعروف بدور «عواطفك دى أشهر من نار»، وهو الدور المعروف بأن مجموع الحروف الأولى لكل شطر منها تجمع «عباس حلمى خديوى مصر»، ويكشف حسن درويش أن والده كتب هذا الدور فى شبه رشوة للخديوى، قائلا إنه بعد عودة جورج أبيض من البعثة التى قضاها فى فرنسا لتعلم الفنون ودراسة فن التمثيل على نفقة الخديوى عباس وذلك عام 1910، اهتمت الجرائد بجورج أبيض وبعثته وكذلك الأوساط الفنية، وانتشر بينهم إيمان الخديوى بالرسالة الفنية واهتمامه بها خاصة فن المسرحية وهو الاهتمام الذى دفعه للموافقة على سفر جورج أبيض إلى فرنسا، كما أن الخديوى يهتم أيضا بفن الموسيقى وهو ما يبرهن عليه حسن درويش فى المذكرات بمنح الخديوى «النيشان المجيدى الأول للمسيو كاميل سن أثناء زيارته لمصر، قائلا إنه ومن هذا المنطلق قاد سيد درويش الطموح، وتصور أن الخديوى ربما يوافق له هو أيضا على السفر لفرنسا لتعلم الفنون على نفقة الخديوى الخاصة، خاصة وأن نجم درويش فى هذه الفترة كان بدأ فى التألق واستطاع إثبات جدارته فى الأوساط الفنية، فأرسل سيد درويش طلبا إلى الخديوى يلتمس فيه الموافقة على إرساله فى بعثة موسيقية يستكمل فيها تعليمه الفنى وأرفق مع الطلب دورا غنائيا ألفه خصيصا ليشفع له فى طلبه، وهو دور «عواطفك دى أشهر من نار»، والذى يقول فيه «عواطفك دى أشهر من نار.. بس إشمعنى جفيتنى ياقلبك .. أنت اللطف وليه احتار.. سيد الكل أنا طوع أوامرك»، وهنا نلاحط أنه لو جمعنا كل حرف من بداية كل شطر ستتجمع كلمة «عباس»، وهكذا استكمل درويش الدور بأشطر تتجمع حروفها الأولى فتكون كلمة «عباس حلمى خديوى مصر»، وتعلق طموح سيد درويش بالمنحة وانتظر موافقة الخديوى على سفره، لكن هذا لم يحدث واكتفى عباس حلمى وقتها بمنحة مالية قدرها عشرون جنيها أرسلها إلى درويش الذى ثار غضبه من الرفض وأصر فى كبرياء على رفض المنحة المالية، وإعادتها للخديوى إلا أن مجموعة من أصدقائه منعوه من ذلك خوفا عليه من غضب الخديوى ورد فعله على رفض سيد درويش منحته المالية.
لم يكن رفض الخديوى عباس حلمى لطلب سيد درويش أمرا سيئا على الإطلاق، بل كان فى مصلحة الملحن العبقرى على المدى الطويل، هو بالطبع لم يدرك الأمر وقتها لكن هذا الرفض من الخديوى وتحطم آمال سيد درويش على أعتابه جعلته ساخطا على الخديوى الذى لحن له من قبل مجموعة من أناشيد «السلامات»، التى ارتبطت معانيها بالوفاء والدعاء للخديوى وللسراى، وذلك أسوة بما فعله قبله من كبار الفنانين أمثال محمدعثمان وعبده الحامولى، وهنا يعلق حسن درويش فى مذكرات أبيه «من أجل أبى»، أن كل فنان ناشئ فى هذا الوقت كانت واحدة من أمنياته أن يكون مطرب الخديوى والسراى، وكان فى الإمكان أن يتحول سيد درويش إلى مطرب الخديوى لكن رفضه منحة السفر غير المسار تماما، خاصة وأنه فى حال موافقته على سفر درويش إلى فرنسا كان سيصبح من الضرورى الاعتراف بأفضال الخديوى فى الألحان والأدوار وكان هذا سيجعله أسيرا للخديوى لا يستطيع الفكاك منه، وقد تقوده الظروف لمجاملات توقعه فى المحظور، فكان الرفض بمثابة نقطة تحول فى حياة سيد درويش الفنية وبناء شخصيته، ورفضه لتصرفات الخديوى معه جعلته يعيد النظر فيما يقدمه من فن يحمل شبهة تردّ فى أساليب النفاق والرياء للحكام والتى كانت متبعة ومشروعة فى ذلك الوقت خاصة مع الخديوى عباس حلمى الذى فقد شعبيته بسبب تواطؤه مع القوى الاستعمارية ضد الحركات الوطنية التى كانت تنمو فى مصر، ومن هنا ترك سيد درويش دور عواطفك ولم يغنه.
لكن تداعيات هذه الواقعة وتأثيرها على حياة سيد درويش لم تنته، فبعد أن قامت الحرب العالمية الأولى عام 1914 وأعلنت الحكومة البريطانية حمايتها على مصر وأصدرت حكما باستبدال الخديوى عباس حلمى بالسلطان حسين كامل وأعلنت الأحكام العرفية، ثار الشعب المصرى ضد السلطات البريطانية وحسين كامل، وشعر المصريون أنهم ظلموا عباس حلمى حين اتهموه بموالاة الاحتلال، فأرادوا عودته إلى مكانته فى حكم مصر بعد أن استعاد مكانته فى قلوب المصريين، وهنا عاد سيد درويش إلى دور «عواطفك دى أشهر من نار»، فقام بتلحينه وغنائه وأصبح هذا الدور هو أيقونه رفض تعيين حسين كامل وعدم قبول المصريين بحكمه، إلا أن الرقابة وبعضا من عملاء الاستعمار الذين كانوا يعرفون مسبقا أن هذا الدور كتب لعباس حلمى وعلى دراية بمقاصد الكلمات، فصدرت قرارات من الرقابة بمنع الدور من الغناء فى مصر، وهكذا صار هذا الدور هو شعلة النيران التى ألهبت قلوب المصريين لرفض الاحتلال وتولى حسين كامل والتعبير عن الحب لعباس حلمى، وهو الأمر الذى لم يكن فى حسبان سيد درويش أيضا خاصة بعد منعه من الغناء ومصادراته، وكانت هذه الواقعة بمثابة مواجهة سياسية أيقظت عند سيد درويش الإحساس بقيمة الغناء والفن السياسى على حد تعبير نجله فى الكتاب، وهكذا كان لهذا الدور ورفض عباس حلمى سفر سيد درويش أثران إيجابيان، هما معرفة درويش قيمة الغناء السياسى ونضج هذا الحس فى فنه، والأثر الأول كما ذكرنا من قبل هو أن غضب درويش من رفض عباس حلمى للسفر إلى فرنسا أبعده عن الغناء للسراى، وبالتالى لم يصبح فنان الخديوى، وصار فنان الشعب الذى استطاع وهو شاب فى مستهل حياته الفنية أن يتصدى للمجتمع فى ثقة وإيمان بنفسه وعمل على اجتذاب طبقات جديدة من الجماهير مختلفة الثقافات، والتى قدم لها ألحانا مختلفة اتسمت بالبساطة والشعبية فى ثورة على موروث فنى لا يقبل التجديد، فانتشرت بينهم ألحانه التى اتسمت بالصدق والبعد عن التكلف المصطنع، فكانت ألحانا قريبة من قلب المستمع يستطيع فهمها وحفظها وترديها بسهولة، خاصة أنه أحس بصدق بمحنة الشعب وعاش أفراحه وتجاوب مع تجاربه وعبر عن آماله، فقدم لعالم الفن ما لم يقدمه أحد من قبله، وتربع على عرش التلحين وقاد ثورة التجديد فى الغناء وصار «فنان الشعب» هو لقبه الرسمى الذى استحقه بجدارة ولم ينافس عليه أحد حتى اليوم.