دور الفرد فى التاريخ
مضت مواكب التاريخ تتقدمها دول وتتأخر فيها غيرها، وبين حقبة وأخرى تتبدل المواقع، ويتقدم المتأخرون والعكس. ولأن الدول تتأسس على ركائز اجتماعية عمادها البشر، فحركة التاريخ إنما هى فى جوهرها توثيق لحركات البشر.
وعلى امتداد كتاب الزمن المفتوح لمعت بلدان وتألق نجمها، وكان لبعض أبنائها فضل فى هذا اللمعان، بقدر تميزهم الفردى الواضح وقدرتهم على الاندماج فى جماعتهم وسياقهم.
وعلى امتداد أيام رمضان نفتح تلك المساحة لاستضافة باقة من رموز التاريخ القديم والحديث، ممن لعبوا أدوارا عظيمة الأهمية والتأثير، وقادوا تحولات عميقة الفعل والأثر فى مجتمعاتهم، وربما فى العالم وذاكرته ووعيه بالجغرافيا والزمن والقيم، فكانوا مصابيح مضيئة فوق رؤوس بلدانهم، حتى أننا نراها اليوم ونستجلب قبسا من نورها، تقديرا لأدوار فردية صنعت أمما وحضارات، ولأشخاص امتلكوا من الطاقة والطموح والإصرار ما قادهم إلى تغيير واقعهم، وإعادة كتابة التاريخ.
أبراهام لينكولن واحد ممن ينطبق عليهم هذا المثال، رقميا فهو لم يجلس على كرسى حكم الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 5 سنوات، ولكن فعليا تم تصنيفه على أنه واحد من أفضل 3 رؤساء أمريكين إلى جانب جورج واشنطن وفرانكلين روزفيلت، لأنه تولى رئاسة الولايات المتحدة فى وقت عصيب من 1861 وحتى 1865 وهى فترة عانت فيها الولايات المتحدة انقساما كبيرا تمثل فى إعلان 7 ولايات جنوبية الانفصال عن الشمال وإعلان دستور جديد باسم دستور الولايات الكونفدرالية الأمريكية، ما معناه أنه لا يوجد حلم الولايات الأمريكية المتحدة، وبالتالى كان التحدى الأكبر أمام لينكولن كرئيس للولايات المتحدة هو استعادة الولايات المنفصلة بالتفاوض والإقناع، وإذا فشل الأمر فيكون بالحرب، وتعريف الحرب علميا هنا ليس تحرير الأرض المغتصبة من دولة أخرى أو عدو غاشم ولكنها « حرب أهلية» بين مواطنين أمريكيين، بمعنى أن مواطن أمريكى من الشمال سيرفع السلاح فى وجه مواطن أمريكى من الجنوب، وستسيل الدماء على الأرض الأمريكية ويسقط عشرات بل مئات الآلاف، وهو أمر يكون قاسيا جدا على الدول عندما يكتب فى تاريخها، ويكون قاسيا أيضا على أصحاب المسؤولية التاريخية عن هذا الأمر فى وقتها.
أبراهام لينكولن واحد ممن ينطبق عليهم هذا المثال، رقميا فهو لم يجلس على كرسى حكم الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 5 سنوات، ولكن فعليا تم تصنيفه على أنه واحد من أفضل 3 رؤساء أمريكين إلى جانب جورج واشنطن وفرانكلين روزفيلت، لأنه تولى رئاسة الولايات المتحدة فى وقت عصيب من 1861 وحتى 1865 وهى فترة عانت فيها الولايات المتحدة انقساما كبيرا تمثل فى إعلان 7 ولايات جنوبية الانفصال عن الشمال وإعلان دستور جديد باسم دستور الولايات الكونفدرالية الأمريكية، ما معناه أنه لا يوجد حلم الولايات الأمريكية المتحدة، وبالتالى كان التحدى الأكبر أمام لينكولن كرئيس للولايات المتحدة هو استعادة الولايات المنفصلة بالتفاوض والإقناع، وإذا فشل الأمر فيكون بالحرب، وتعريف الحرب علميا هنا ليس تحرير الأرض المغتصبة من دولة أخرى أو عدو غاشم ولكنها « حرب أهلية» بين مواطنين أمريكيين، بمعنى أن مواطن أمريكى من الشمال سيرفع السلاح فى وجه مواطن أمريكى من الجنوب، وستسيل الدماء على الأرض الأمريكية ويسقط عشرات بل مئات الآلاف، وهو أمر يكون قاسيا جدا على الدول عندما يكتب فى تاريخها، ويكون قاسيا أيضا على أصحاب المسؤولية التاريخية عن هذا الأمر فى وقتها.
والحقيقة أن الرقم الصعب فى معادلة الحرب الأهلية الأمريكية كان أبراهام لينكولن لأن الحرب بدأت بعد شهر واحد فقط من فوزه فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتحديدا إبريل 1861 فى ولاية ساوث كارولينا، وهو ما وضع على عاتقه إدارتها بشكل يقود إلى 3 نتائج رئيسية أولها هو تقليل مساحات التمرد من الولايات المستقلة مع تدعيم فكرة الاتحاد من جديد بين الولايات، وأن الحرب ليست لأهداف شخصية إنما لتثبيت فكرة بناء الدولة نفسها وحمايتها من التفتت، والنتيجة الثالثة هو البحث وراء السبب الحقيقى الذى أوقع البلاد فى هذه الحرب التى سقط فيها ما يزيد عن فيها 600 ألف مواطن أمريكى.
وإبراهام لينكولن كان صاحب قناعة أن هذه الحرب الأهلية كانت عقوبة من الله لأمريكا بسبب ممارسات العبودية، ومن هول الحرب وقسوتها لم يكن يعرف متى ستنتهى وعندما كان يتلقى أسئلة كان يجيب: «يبدو أن الحرب، ستسمر حتى تزول جميع الثروات التى جمعت بعد 250 سنة من الاستعباد، وحتى ندفع ثمن كل قطرة دم سقطت نتيجة ضرب العبيد بالسوط».
من هذه القناعة يمكن أن نستنج كيف أصبح لينكولن واحدا من أهم الرؤساء الأمريكان وقادتها فى التاريخ بل ومؤسيسيها، لأن هذه القناعة هى من قادته فيما بعد لأهم قرار فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية بالتحرير المبدئى للعبيد فى 22 سبتمبر 1862 الذى دخل حيز التنفيذ فى يناير 1863، ومن يومها أصبح لينكولن هو محرر العبيد فى الولايات المتحدة الأمريكية.
ولك أن تتخيل أن قرار لينكولن هو من فتح الباب بعد 160 عاما لرجل أسود مثل باراك أوباما أن يترشح على منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ويكون أول رئيس أسود يجلس على كرسى الحكم فى أمريكا، بل ولدورتين متتاليتين، وأعتقد أن أوباما كان أكثر ذكاء فى تثبيت هذه الصورة عندما أصر على أن يؤدى اليمين الدستورية 2009 على نسخة الإنجيل التى أقسم عليها لينكولن عند بداية دورته الرئاسية عام 1861، وهو ما يعد رسالة تقدير من أول رئيس أسود للولايات المتحدة الأمريكية إلى أول رئيس قضى على العبودية وألغاها.
وأعتقد أن لينكولن بكل الدراما التى تعلقت بحياته يستحق أن نقف عند مفاتيح شخصيتة الاستثنائية فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، كيف تكونت لديه قرارات إلغاء العبودية وكيف مهد لها الطريق وكيف ربطها بانتهاء الحرب الأهلية، ولهذا كان لينكولن واحدا من ضيوف هذه الصفحة اليومية فى شهر رمضان الكريم التى خصصناها عن رجال بنوا الأمم والحضارات، رجال لعبوا الدور الأكبر فى إنقاذ بلادهم من الغرق فى الأزمات، رجال صعنوا مجدا جديد لأممهم بالكفاح الحقيقى، رجال استطاعوا أن يسطروا صفحات جديدة من تاريخ بلادهم.
أبراهام لينكولن.. كيف يصنع الفشل رجلا يصدر أهم قرار فى التاريخ الأمريكى
من يتأمل سيرة أبراهام لينكولن يندهش لأنها عبارة عن محطات متتالية من الفشل المتكرر لمدة 45 عاما، حتى انتهى الأمر بالنجاح والجلوس على كرسى حكم الولايات المتحدة الأمريكية، لدرجة أن قصص فشله أصبحت الهاما لمواطنين كثيرين فى النجاح فيما بعد، ولعل موقع «لينك إند» هو صاحب الرصد المعلوماتى الموثق لهذه السيرة، فمثلا فى 1816 طردت عائلته من منزلها وذهب للعمل ليوفر لهم مسكن وكان عمره 23 عاما وفى 1831، فشل فى عمله، وفى 1832 تقدم لعضوية المجلس التشريعى لولايته وخسر، وفى نفس العام فقد وظيفته وبعدها بعام اقترض لبدء عمل خاص وقضى 17 عاما لسداده حتى أعلن البنك إفلاسه، وفى عام 1835 خطب فتاة ليتزوجها، لكن حبيبته ماتت، فأصيب بصدمة عصبية فى عام 1836، وقضى 6 شهور فى فترة النقاهة والتعافى، وفى عام 1838 تقدم للعمل كمتحدث للمجلس التشريعى، ورفض، وفى العام 1840 تقدم للحصول على حق التصويت وفشل وفى العام 1843 ترشح للكونجرس وخسر، فكرر التجربة بعدها بـ 3 سنوات ونجح، ولم يستمر النجاح طويلا لأنه خسر فى الانتخابات التالية فى 1848، فتقدم لعمل جديد بعدها بعام وتم رفضه، فترشح مرة رابعة فى مجلس الشيوخ عام 1854 فخسر، فغير من مسارات العمل السياسى بالترشح لمنصب نائب رئيس المؤتمر الوطنى فى 1856 فلم يحصل إلا على 100 صوت فقرر العودة لانتخابات مجلس الشيوخ فى 1858 فخسر، حتى ترشح للانتخابات الرئاسية فى 1860 فنجح وجلس على كرسى الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه السيرة المكدسة بمحطات الفشل تكشف أن تكوين هذا الرجل لم يكن سهلا والنضج الذى دفعه لاتخاذ قرار عظيم مثل قرار إلغاء العبودية لم يأت من فراغ أو بدافع شخصى إنما بقناعات وتجارب حياتية، لأن كل مرحلة مختلفة مر بها وفشل فيها كانت خطوة نحو مستقبل أفضل، وأنه لم ينظر لكل منطقة فشل نظرة فردية، لكنه كان ينظر اليها بشكل جماعى أن الفشل المتتالى بداية لنجاح دائم، وأعتقد أن نظرته للعبودية كانت من نفس الأرضية، وأن قرار إلغاء العبودية اليوم يمهد لمستقبل أفضل للأجيال القادمة فى هذه الأمة.
خطابات لينكولن التاريخية ضد العبودية
التاريخ سجل 3 خطابات تاريخية لأبراهام لينكولن ضد استعباد السود فى الولايات المتحدة الأمريكية، وهم خطابات بيوريا والبيت المنقسم وجيتيسبرج، ولكل خطاب تاريخ وموقف مختلف يعكس أن قناعات لينكولن ضد الاستعباد والرقيق لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت راسخة لديه وتنمو وتنضج يوميا وينشرها وسط أصدقائه ومعارفه قبل أن يكون رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية.
الخطاب الأول «بيوريا» كان فى وقت متقدم وتقريبا فى العام 1854، يعنى قبل أن يتولى رئاسة الولايات المتحدة بـ6 سنوات، ووقتها كان بيهاجم قانون سئ السمعة اسمه «قانون كنساس»، وهو القانون الذى يؤسس لفكرة التمييز العنصرى بين البيض والسود ويرسخ من الاستعباد، وقال وقتها: «هذا القانون يبث الحماس لنشر الاستعباد، ولا يسعنى إلا أن أكره ذلك بسبب ظلم ووحشية الاستعباد نفسه».
الخطاب الثانى كان فى 1858، وكان على أعتاب الترشح لمجلس الشيوخ والحقيقة هذا الخطاب كان الأوسع انتشارا وحمل اسم «البيت المنقسم»، وأعتقد أنه اسمه كان له دلالة فى الرسالة منه وكان توصيفا حقيقيا لحال المجتمع الأمريكى، وقال لينكولن: «إن البيت المُنقسم على نفسه لا يمكن أن يقف.. إننى أؤمن بأن هذه الحكومة لا يمكن أن تتحمل أن يكون نصفها عبيدا والنصف الآخر مُحررا».
الخطاب الأخطر هو خطاب جيتيسبرج وكان فى 19 نوفمبر 1863 أمام مقبرة تذكارية بولاية بنسلفانيا، ووقتها كان قد مر عليه عامان على رئاسة البلاد، وكان قد أصدر قانون حظر العبودية، وفى هذا الخطاب أسس لما يعرف بإعلان الاستقلال وربط فيه بشكل مباشر بين ما كانت تعانيه البلاد من حرب أهلية وبين ما حققته من إنجازات فى المساواة بين البشر وإلغاء العبودية والرق.
كيف ساهم قرار إلغاء العبودية فى الإسراع لإنهاء الحرب الأهلية
ربما ذكاء أبراهام لينكولن كان وراء الترتيب الملفت للنظر لاستخدام قرار إلغاء العبودية وهو قرار حقوقى يتعلق بالمساواة والعدل بين البيض والسود فى الإسراع من إنهاء الحرب الأهلية التى كانت تعانى منها البلاد، والحقيقة يحتاج الأمر لشرح مبسط للتدريج الذى استخدمه لينكولن فى تنفيذ قراراته بتحرير العبيد ومن ثم الاسراع من الحرب الاهلية.
أولا: أصدر أبراهام لينكولن قرار فى سبتمبر 1862 بالإعلان المبدئى لتحرير العبيد المتواجدين فى الولايات المتمردة المنفصلة التى أطلقت على نفسها اسم الولايات الكونفدرالية، وهذا القرار تضمن أنه بمجرد هروب العبد من الحكومة الكونفدرالية وتقدمه للالتحاق للقوات الاتحادية يصبح العبد حرا فورا، وهو ما يترتب عليه هروب عدد كبير من العبيد وبالتالى انشقاق فى صفوف القوات فى الفيدرالية التى تدخل الحرب فى مواجهة القوات الاتحادية برئاسة أبراهام لينكولن ما يعنى اهتزاز صفوف القوات الفيدرالية.
ثانيا: اعتمد لينكولن قرار إلغاء العبودية بولايات الجنوب تنفيذيا فى يناير 1863، ما ترتب عليه تغير الوضع القانونى لأكثر من 3 ملايين أسود فى الجنوب من مستعبدين إلى أحرار، فضاعف الأمر من الثغرات بقوات الكونفدرالية وفى المقابل زادت شوكة قوات الاتحاد فأصبح لها الغلبة فى الحرب الأهلية.
ثالثا: بعد 100 يوم أصدر أبراهام لينكولن وثيقة التحرير أو إعلان التحرير ومفادها أن جميع الأشخاص المحتجزين كعبيد فى المناطق المتحررة أصبحوا أحرارا، وهذا الإعلان فى حد ذاته لم يمثل فقط الضربة القاضية لإنهاء الحرب الأهلية، وإنما دعم فكرة الاتحاد عند السود المتواجدين فى الجنوب وظهر ذلك فى أن أكثر من 200 ألف من الجنود والبحارة السود انضموا إلى صفوف القوات الاتحادية.
ما يستحق أن نتوقف عنده هو عقلية هذا الرجل الذى نجح فى الربط بين مكسب حقوقى ومكسب عسكرى ومكسب وطنى فى تحرك واحد، حقوقى بأن ألغى العبودية وعسكرى بأن فاز فى الحرب الأهلية ووطنى بأن حافظ على اتحاد الولايات الأمريكية وأعاد الولايات المتمردة، وهذا النجاح لا يزال محل دراسة وتأمل من الباحثين لسيرة وشخصية هذا الرجل الاستثنائى فى تاريخ الولايات المتحدة.
أول اغتيال لرئيس للولايات المتحدة الأمريكية
وكعادة العظماء فى التاريخ، مكتوب عليهم أن ترتبط صفحاتهم الأخيرة بوقائع إغتيال، أبراهام لونكولن واحد من هؤلاء، فبعد 5 أيام فقط من انتهاء الحرب الأهلية واستسلام الجيش الفيدرالى وعودة الولايات المتمردة، أطلق أحد الممثلين الرصاص على لينكولن خلال حضوره عرض مسرحى فى مسرح فورد، استقرت الرصاصة فى الرأس وفشلت محاولات الإسعاف ومات فى اليوم التالى على الفور، ليكون لينكولن هو الرئيس الأول فى تاريخ الولايات المتحدة الذى يتعرض للاغتيال.
رحل لنكولن وبقيت كلماته وقت تحرير العبودية وكأنها ميثاق للولايات المتحدة فيما بعد حينما قال: «لم أشعر، فى حياتى، أبدًا بيقين أن ما كنت أفعله صواب أكثر مما أفعل بتوقيع هذه الورقة.. وكان يقصد اعلان تحرير العبودية»، ولا يزال لينكولن حتى الآن رمزا من رموز الولايات المتحدة الأمريكية، والرئيس الأكثر تقديرا لدى شعبها، لأنه واجه ظروفا عسكرية وإنسانية صعبة وتخطاها فى ظرف استثنائى من عمر البلاد ووأد فكرة الانقسام بين الولايات، فضلا عن كونه أول رئيس أمريكى يطالب بمشاركة المرأة فى التصويت الانتخابى وأول من أسس جهاز الاستخبارات الامريكية وأول فتح الباب للسود الالتحاق بالقوات المسلحة الأمريكية.
ولكل من يزور الولايات المتحدة، سيجد فى قلب العاصمة واشنطن نصبا تذكاريا كبيرا باسم أبراهام لينكولن، وسيجد صورته مزينة على أوراق العملة فئة الـ 5 دولار، ولا تزال سيرته محل اهتمام من السينما الأمريكية التى جرى تجسيدها فى أكثر من عمل أبرزها فيلم اغتيال أبراهام لينكولن عام 2009 وفيلم لينكولن عام 2012، الذى حصد جوائز متعددة.