"لقد عملت بائع جرائد وعامل مطبعة، وصانع ألعاب، ونافخ زجاج، وساعيا لدى طبيب، لكن وسط كل هذه المغامرات المهنية، لم يغب عن نظرى يوما هدفى النهائى، وهو أن أصير ممثلا هزليا"، هكذا يتحدث شارلى شابلن أو تشارلز سبنسر تشابلن، الممثل الكوميدى الإنجليزى، والمخرج والملحن وكاتب السيناريو الذى ذاع صيته فى زمن الأفلام الصامتة، حتى أصبح أيقونة فى جميع أنحاء العالم من خلال شخصيته الشهيرة«المتشرد، الصعلوك أو المتسكع»، ليعد من أهم الشخصيات فى تاريخ صناعة السينما.
لم يكن عشق شارلى شابلن للمسرح محض صدفة، بل كان هناك ما يدعم هذه الموهبة منذ طفولته، فمنذ أن أبصر النور عاش فى جو يطغى عليه عشق المسرح، كانت والدته مضطرة لاصطحابه معها إلى عملها، بعد أن انفصلت عن والده، ممثل "الميوزيك هول"، وفى الخامسة من عمره، وجد نفسه تلقائيا وهو يحل محل والدته التى خانها صوتها أثناء وصلة غنائية أمام الجمهور، فهل كان ذلك دلالة رمزية على أن خيط العمل التمثيلى الذى انقطع مع والدة «شابلن» فى تلك اللحظة، وإلى الأبد، لا بد وأن يعود، معه هو؟
كانت حياة شارلى شابلن، تتنقل من الغرفة المظلمة فى الطابق الأرضى فى إحدى بنايات شارع أوكلى، والغرف التى انتقلت إليهاالأسرة فيما بعد، ضمن إطار تلك الحياة، فشرائح المجتمع، تضعه باستمرار على هذه الأرض بالذات، أرض المحاكاة الفنية، إذ كانت والدته تسترجع أمامه العديد من المشاهد من حياتها السابقة، وعلى الرغم من تكرارها بوصفها لهذه الحياة بأنها حياة زائفة، كان يقتنص هو هذا الحماس حينما تتحدث عن المسرح.
ودون وعى منها، لعبت والدة شارلى شابلن دورا حاسما ومحفزا فى اهتمامه بالمسرح، ولم تكن والدته فقط هى التى دفعته للشعور بموهبته، فوالده، وعلى الرغم من المسافة التى فصلته عنه، أسهم هو الآخر فى تغذية هذا الخيار لديه، حين عرّف والدته على المستر جاكسون، المسؤول عن فرقة راقصى مطقطقات تحمل اسم «غلمان لانكشاير الثمانية»، وأقنعها بأنها ستكون بمثابة بداية بالنسبة إلى شارلى فى احتراف المسرح، بالإضافة إلى مساعدتها على العيش فى ظل الأجر الذى سيحصل عليه.
لكن الحدث الأهم الذى شكل منعطفا فى حياة شارلى شابلن، وكرس اتجاهه نحو المسرح، كما يخبرنا فى كتاب «قصة حياتى»، والذى نقله عن الفرنسية إلى اللغة العربية، المترجم كميل داغر، وصدر عن المركز الثقافى العربى، إنما كان قبول وكالة بلاكمور أخيرا إعطائه دورا فى مسرحية شارلوك هولمز، بعدما تردد طويلا على مكتبها فى بدفورد ستريت، ولكن من دون جدوى، وهنا يقول «شارلى»: إن ما حدث كان بمثابة ضربة سعيدة، ضربة حظ، واصفا مشاعره إذ كان عائدا إلى بيته بعد ذلك مباشرة بقوله: «عدت بواسطة الباص، منتشيا من السعادة»، أما عن وقع النبأ على شقيقه سيدنى فلم يكن أقل قوة: «إغرورقت عينا سيدنى بالدمع حين رويت له ما حدث، كان جالسا على السرير، ينظر عبر النافذة ساهما، وهو يهز رأسه حينا ويحركه بقوة حينا آخر، ثم قال بلهجة رصينة: "نحن إزاء منعطف فى حياتنا، ويا ليت أمنا كانت هنا لتستمتع معنا بذلك".
وعلى الرغم مما بقى عالقا فى ذاكرة شارلى شابلن من طفولته وعشقه للمسرح وبداياته، فإن ما يطغى على هذه الذكريات بصورة أكثر كآبة، يتمثل فى والدته التى سقطت فى مهاوى البؤس، بعدما أفضت بها الحياة إلى طريق الجنون، الذى لم تشف منه تماما، وبقيت آثاره تطاردها حتى وفاتها، وظلت هذه المأساة بكل تشعباتها تلاحقه هو أيضا، لتترك بصماتها العميقة فى نفسه، وفى طريقة تفكيره، وهو ما جسده فى أعماله من خلال الشخصية المركزية، التى جسدت الهموم الإنسانية التى عاشها فى طفولته.
أما عن أعماله التى فاقت الثمانين، فإن شارلى شابلن ألمح إلى أنه طوال هذه التجربة، لم تدخل كلمة «فن» فى رأسه يوما، ولا فى الألفاظ التى كان يستخدمها، بل كان المسرح بالنسبة إليه يمثل نمطا من الحياة، ولا أكثر من ذلك، إذ كانت أعماله نقلا خلاقا لحياته هو قبل كل شىء، وقد لعبت مرحلة الطفولة دورا كبيرا وحاسما فى مرحلته الأولى من حياته الفنية.
وحينما يتحدث شارلى شابلن عن المسرح، الذى يؤكد دائما على أنه ينبغى أن يكون عاطفيا قبل كل شىء، فإنه يصفه بـ«فن التحفظ» أو «التجميل الدرامى» فهو يرى أن المسرح يشبه تلك اللحظة التى يتم فيها إغلاق الكتاب فجأة، أو إشعال سيجارة، أو إطلاق طلقة رصاصة، أو صرخة مفاجئة، وأن هذه المسميات يجب أن يتم استخدامها بدراية وروية لتشكل شعر المسرح.
ومن هنا أيضًا، فهو يعلن عن عدم حبه لمسرحيات شكسبير، بل ويقول إنه يستفظع الموضوعات الشكسبيرية، مع كل هذه المواكب من الملوك والملكات والشخصيات المجيدة المحاطة بالبهرجة، فيقول: "فحين كنت أسعى وراء معيشتى نادرا ما كانت هناك تطورات يمكن أن يدخل فيها الشرف، وأنا عاجز عن مواساة نفسى مع مشكلات أمير، وقد كان فى وسع أم هاملت أن تضاجع كل أفراد البلاط من دون أن أبالى بالألم الذى قد يكون شعر به" ومن هنا، فإن شارلى شابلن يرى أن فن لعب الكوميديا من خلال وجهة نظهره هو «فن الاسترخاء»، فمهما كان المشهد الذى يلعبه التقنى الموجود فى كل ممثل مجنون، يجب أن يبقى هادئا، يراقب صعوده وانفعالاته وهبوطها ويسيطر عليهما، وهو يرى أن مهنة الممثل تتطلب رهافة الإحساس فوق كل شىء، وإذا كان الذكاء مهما أيضًا، إلا أنه ليس كافيا، فإذا اجتمع الذكاء إلى رهافة الإحساس، وتحقق التوازن بينهما «يكون لدينا عندئذ أروع الممثلين»، وأروع الممثلين هذا يجب أن يحب نفسه حين يمثل " حبا شديدا للمسرح ليس كافيا، يجب أن يضاف إلى ذلك حب شديد للذات وثقة بالنفس".
لم تكن علاقة شارلى شابلن بالثقافة والفكر نابعة من المدرسة، ذلك أن تقلبات حياته لم تتح له الانخراط فى علاقة كهذه إلا لفترة أقصر من أن يمكن النظر إليها بما يكفى من الجدية، كانت الحياة على وجه الحصر، مدرسته الأهم، وهذه المدرسة هى التى علمته الكثير مما قاله من آراء ومواقف فى سيرته الذاتية، مثل رأيه فى الشهرة، وكيف يصور هذا التناقض الشديد الذى أثارته فى نفسه، فمع أنه يتلذذ تماما بما يلاقيه من حماس الناس حياله وحيال أعماله، كان يرى فى ذلك، فى الوقت نفسه، ضربا من الجنون، فيقول: «بت أحس بنفسى فريسة لشعور رازح بالوحدة.. فإذا كانت بضع كوميديات هزلية بائسة تتسبب بهذا القدر من الحماس، أليس ثمة شىء زائف فى الشهرة؟
ومع أن شارلى شابلن يعترف بوضوح شديد بإلحاده، معتبرا أن الدين هو الإيمان بدوجما يرفضها، فهو يؤكد أنه وإن لم يكن مؤمنا فإن هذا لا يعنى على الإطلاق أنه عديم بالإيمان أيضًا، فهو يعتقد أن الإيمان هو العنصر الرائد فى كل أفكارنا، ومن دونه ما كان بإمكاننا فى يوم من الأيام أن نبتكر فرضيا أو نظريات أو علوما أو رياضيات.
وما قاله شارلى شابلن هنا، دفع العديد لأن يطرح عليه السؤال الحتمى، وهو بماذا تؤمن إذن؟ ليجيب: «إننى مؤمن بالمجهول، بكل ما لا نفهمه بواسطة العقل، أؤمن بأن ما يتجاوز إدراكنا هو واقعة بسيطة فى أبعاد أخرى، وأنه توجد فى مملكة المجهول احتياطيات هائلة من الطاقة لأجل الخير«.
ويشير شارلى شابلن، فى هذا السياق، إلى موقفه من الوطن، إذ يعترف بكل بصراحة أنه ليس متحمسا للوطن، ليس فقط لأسباب أخلاقية أو فكرية، بل كذلك لأن هذا الشعور لا وجود له لديه، فيقول: "أنا عاجز عن الزعيق بشأن الكبرياء القومى.. وبالطبع إذا جرى غزو للبلد الذى أعيش فيه، فأعتقد أننى سأكون قادرا على التضحية بحياتى مثل معظم الناس، لكننى عاجز عن الشعور بحب متوقد لبلدى الأم".
وحينما سئل فى مؤتمر صحفى، إبان الحملة العنيفة التى شنت ضده بسبب مواقفه السياسية والفكرية، التى رأت الأوساط المحافظة أن رائحة الشيوعية تنبع منها، حول أسباب عدم حصوله على الجنسية الأمريكية، قال إنه لا يرى موجبا لتغيير جنسيته، فهو يعتبر نفسه مواطنا عالميا.
تعرض شارلى شابلن إلى محاصرة شديدة فى كافة أشكال الحياة، سواء على مستوى أفلامه أو ملاحقته فى القضاء، وصولا إلى إبلاغه فى عام 1952 بقرار حظر عودته إلى أمريكا، وهو لم يكن قد غادر الميناء بعد، وكان فى طريقة إلى أوروبا، وقد ظل ينكر مرارا وتكرارا علاقته بالشيوعية، وشدد على أنه لم ينتسب فى يوم من الأيام إلى أى حزب سياسى، إلا أن عددا كبيرا من أفلامه شكلت حينذاك نقدا واضحا وصريحا وحادا للرأسمالية، وتعبيرا لا لبس فيه عن التضامن مع قضايا الفقراء والمعدمين، وشتى الذين يتعرضون للظلم والاستغلال والقهر، بذلك الأسلوب الهزلى الساخر والناعم الذى شد إلى شارلى شابلن قلوب العشرات بل مئات الملايين من الناس الذين كانوا يتهافتون عبر العالم على أفلامه.
وقد شكل فيلم «الديكتاتور الكبير» الذى أخرجه خلال الحرب العالمية الثانية إدانة لاذعة وصارخة ضد النازية، وجاء الخطاب النهائى فى الفيلم أقرب ما يكون إلى إعلان إيمانه بالحياة الجميلة والسعيدة، الخالية من الحقد والجشع، وبالأرض الطيبة الغنية القادرة على تلبية حاجات المجتمع، وقد ختمه بدعوة الشعوب إلى خلق عالم جديد، عالم يمنح كل الناس إمكانية أن يعملوا، ويؤمن مستقبلا للشباب، فيقول: "فلنناضل الآن لتحرير العالم وإطاحة الحواجز بين الأمم.. فلنناضل لأجل عالم مبنى على العقل، عالم يقود فيه العلم والتقدم إلى السعادة الشاملة."