دور الفرد فى التاريخ
مضت مواكب التاريخ تتقدمها دول وتتأخر فيها غيرها، وبين حقبة وأخرى تتبدل المواقع، ويتقدم المتأخرون والعكس. ولأن الدول تتأسس على ركائز اجتماعية عمادها البشر، فحركة التاريخ إنما هى فى جوهرها توثيق لحركات البشر.
وعلى امتداد كتاب الزمن المفتوح لمعت بلدان وتألق نجمها، وكان لبعض أبنائها فضل فى هذا اللمعان، بقدر تميزهم الفردى الواضح وقدرتهم على الاندماج فى جماعتهم وسياقهم.
وعلى امتداد أيام رمضان نفتح تلك المساحة لاستضافة باقة من رموز التاريخ القديم والحديث، ممن لعبوا أدوارا عظيمة الأهمية والتأثير، وقادوا تحولات عميقة الفعل والأثر فى مجتمعاتهم، وربما فى العالم وذاكرته ووعيه بالجغرافيا والزمن والقيم، فكانوا مصابيح مضيئة فوق رؤوس بلدانهم، حتى أننا نراها اليوم ونستجلب قبسا من نورها، تقديرا لأدوار فردية صنعت أمما وحضارات، ولأشخاص امتلكوا من الطاقة والطموح والإصرار ما قادهم إلى تغيير واقعهم، وإعادة كتابة التاريخ.
من كلمات أبوعمار المحفورة فى أذهان الشعب الفلسطينى والشباب العربى تدرى أنك أمام ثائر حقيقى لم تنسه مقابلات فخامة زعماء العالم والرؤساء بؤس مخيمات يسكن فيها أبناء شعبه إذ هو القائل: «يريدوننى إما قتيلاً وإما أسيراً وإما طريداً، ولكن أقول لهم: شهيداً...شهيداً...شهيداً».
يتيقن لك بعد قراءة الكلمات التى نطق بها خلال حياته أن الرجل عاش ومات لهدف معين ولقضية محددة دفع فى سبيلها الغالى والنفيس حتى مات على العهد الذى كان بينه وبينه شعبه.
«أبوعمار» رجل عاش من أجل أبواب القدس وساحاتها وكنائسها ومآذنها وشعبها، كان مؤمنا تماما بفكرة أن حق فلسطين المغتصب لن يعيده إلا أبناء الشعب الفلسطينى وحدهم دون غيرهم، وأن الدعم المقدم لهم من الآخرين ما هو إلا دعم لا يترقى لأبعد من ذلك.
«على القدس رايحين شهداء بالملايين».. هذا الشعار الذى كان ومازال يزلزل أرجاء فلسطين، أول من نطق به هو «أبوعمار» وزرعه فى نفوس أبناء الشعب الفلسطينى والعربى، ينطق به أطفال فلسطين ويملأون بها الشوارع ضجيجا بصراخهم وصخبهم بصدورهم السلمية أمام جحافل قوات الاحتلال.
إذا رأيت المشاهد التى تملأ الأراضى الفلسطينية فى ذكرى وفاة «أبوعمار» تعرف مكانة هذا الرجل عند كل فلسطينى وعربى وثورى، إذ يخرج أبناء المدارس فى المخيم والمناطق المجاورة عن بكرة أبيهم فى تذكر عفوى أو تلقائى لياسر عرفات، ويتذكرون يوم رحيله كما يتذكرون أسماءهم وأسماء آبائهم وأجدادهم، يحفظون شعاراته وكلماته الوطنية كما يحفظون تواريخ ميلادهم وأسماء أشقائهم، يعرفون ملامح ياسر عرفات كما يحفظ أحدهم ملامح أبناء أسرته.
لكل شبر فى فلسطين ولكل فلسطينى حكايته الخاصة والخالصة مع ياسر عرفات الذى بعث فى نفوس أبناء شعبه شعورا وطنيا خالصا، ويكفى أن تعرف أن الفلسطينيين يجلسون فى الشوارع والأزقة يتهامسون عن حياة الرجل بكل تفاصيلها وكأنهم يستحضرون الحاضر الغائب «أبوعمار»، كما أن التلاميذ فى فلسطين يتذكرون ويستعيدون مشهد أبوعمار وهو يدخل مدرستهم فجأة يربت على أكتافهم، ثم يخطو بثقة وبيقين الحالم أمامهم ويكتب بالطباشير على السبورة «فلسطين عربية» و«القدس عربية».. كلمات مقدسة كان عرفات يختصر فيها كل مناهج التعليم فى فلسطين والعالم العربى، ليكرس فى أبناء شعبه جيلا بعد جيل أن تحرير فلسطين حق وتحرير القدس حق عربى خالص لله وللوطن.
ميلاد شمس الثائر الفلسطينى
فى الوقت الذى كانت تطالب فيه إسرائيل بفتح أبواب فلسطين على مصراعيها لليهود جاء مولد عرفات يوم 24 من شهر أغسطس عام 1929، واسمه الحقيقى هو محمد ياسر عبدالرحمن عبد الرؤوف عرفات القدوة والمُكنّى بأبى عمّار، واشتهر لاحقا باسم ياسر عرفات، وكانت الظروف التى ولد فيها الطفل تهيئة له بأن يكون ثوريا محاربا مناضلا لأبناء شعبه.
الطفل عرفات ينظم جنازة عسكرية لقطة
يبدو أن الحياة العسكرية والحروب كانت تغزو عقل «أبوعمار» منذ نعومة أظافره، فهناك مشهد عظيم يؤكد للجميع ذلك، إذ نظم ياسر أول «جنازة ذات طابع عسكرى»، وأشرف على إعداد تفاصيلها بنفسه، ولم يكن له من العمر سوى 11 عاما، كانت تلك جنازة قطه الأشقر «مشمش»، الذى شغف به هو وشقيقه فتحى كثيرا، حتى أنهما كانا يرقدانه بينهما على سريرهما الكبير المشترك ويشركانه فى كل ألعابهما، وانسجاما مع ظروف الحرب، قرر ياسر أن يقيم له جنازة عسكرية: لف جثة القط بقماشة ووضعها فى علبة كرتون أعدها بنفسه، ثم اتخذ موقعه على رأس موكب الأطفال وسار بهم بخطى وئيدة نحو أرض خلاء حيث دفنوه وألقى ياسر كلمة فى تأبين «الفقيد»، مشهد عمل جنازة عسكرية من قبل ياسر عرفات لقطه يظهر لنا عقلية الرجل وانشغاله بالحياة العسكرية، شخصية «عرفات» أرهقت الكيان الصهيونى لدرجة دفعتهم يحاولون اغيتاله، وشخصية مثل هذا عملت على نفسها منذ الصغر وتوسعت فى المعرفة، فقد كان الطفل عرفات يشرع فى قراءة الصحف فى سن مبكرة، وفى أثناء الحرب العالمية الثانية شاهد ياسر آلاف اللاجئين يتدفقون على القاهرة بعد وصول قوات ألمانية وإيطالية إلى خط العلمين فى غرب مصر، وكانت صور الدمار الذى تحدثه القنابل فى الإسكندرية تملأ صفحات جريدة الأهرام، وكان ياسر وأصدقاؤه يزورونهم ويطلعون على معاناتهم، فعرفوا مبكرا معنى اللجوء ومأساته، فكل هذه الأحداث دفعت ياسر عرفات للاهتمام بالأحداث السياسية وبالخرائط والأسلحة، لأنه عاش أجواء الحرب، وفى العام 1942 التحق ياسر بالمدرسة الثانوية وهو فى الثالثة عشرة من عمره، وبدأ يوسع معارفه من خلال قراءة الصحف والكتب المتنوعة من الخفيفة إلى الأدبية والدينية والتاريخية.
أكذوبة انضمام ياسر عرفات لجماعة الإخوان عام 1945
هناك من يردد بثقة أن «عرفات» قد انضم إلى جماعة الإخوان وهذه أكذوبة، إذ طرأت تغيرات كبيرة فى حياة أسرة ياسر عرفات خلال دراسته فى المرحلة الثانوية ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 كانت قضيتا التحرر من الاستعمار وهجرة اليهود إلى فلسطين من أبرز القضايا التى تتصدر النقاشات السياسية واهتمامات الأحزاب فى فلسطين والدول العربية، وكان الطلاب يعلنون انتماءاتهم السياسية، ومال ياسر عرفات فى هذه المرحلة إلى ما كانت تطرحه حركة «الإخوان المسلمون» من أفكار، لكنه لم ينتم إليها.
ياسر عرفات.. طالب جامعى برتبة جهادى
الحياة الجامعية لياسر عرفات لم تكن كأى حياة دراسية، حيث كان ياسر عرفات طالبا فى السنة الأولى فى كلية الهندسة عندما استشهد عبد القادر الحسينى يوم 7 إبريل 1948 فى معركة جبل القسطل بالقدس، وبعد ذلك بيومين فى التاسع من نفس الشهر ارتكبت المنظمتان اليهوديتان المتطرفتان«الأرغون» و«شتيرن» مجزرة دير ياسين حيث قتل الإرهابيون نحو 360 شخصا من أهل القرية وتأثر عرفات بشدة بتطورات الأحداث فى فلسطين فأحرق مع صديقه حامد أبو ستة كتبهما أثناء اجتماع وقرر ياسر أن يتوجه إلى فلسطين لحمل السلاح دفاعا عن أرضه وشعبه ثم انضم إلى «جيش الجهاد المقدس» وعين ضابط استخبارات فيه.
«عرفات» فى حضرة الضباط الأحرار
ولأن الطيور على أشكالها تقع، شاءت الأقدار أن يتعرف «عرفات» على شباب أصبحوا فيما بعد الضباط الأحرار، فى العام 1949 عاد ياسر عرفات إلى كلية الهندسة، وأسس ياسر عرفات مع عدد من الطلاب الفلسطينيين رابطة سموها «رابطة الطلاب الفلسطينيين» فى العام 1950 وانتخب ياسر عرفات رئيسا لها فى العام 1951 وتعرف إلى القائدين الثوريين المصريين كمال الدين حسين وخالد محيى الدين فى مؤتمر طلابى كبير عقد فى جامعة الملك فؤاد فى مايو 1951، وهما من الضباط الأحرار الذين قادهم جمال عبدالناصر فى ثورة 23 يوليو 1952، وفى المؤتمر ألقى ياسر عرفات كلمة باسم فلسطين بعد أن أقنع منظمى المؤتمر بإدراج كلمة فلسطين ضمن جدول أعمال المؤتمر، وفيها قال: «أيها الزملاء، لا وقت للكلام ولندع الرصاص يتكلم».
تخرج ياسر فى الجامعة فى العام 1955، وعقب تخرجه أسس رابطة الخريجين الفلسطينيين، ثم التحق عرفات بالجيش المصرى فور اندلاع حرب السويس فى 28 أكتوبر 1956 «العدوان الثلاثى» كضابط احتياط فى وحدة الهندسة المتمركزة فى منطقة بور سعيد، واستخدم ياسر كل معلوماته ومخزونه من التدريبات التى تلقاها قبل عام فى معسكر للجيش المصرى.
عرفات وانطلاق الكفاح المسلح
ظل عرفات شغوفا بالعمل النضالى ولم يرتض بالأوضاع القائمة، ورغم سفره من القاهرة بعد تخرجه من الجامعة إلى الكويت حيث توفر الثروة النفطية فيها العديد من فرص العمل، وفيها جالية مهمة من فلسطينيى الشتات استقر عرفات فى الكويت عام 1957وعمل فى البداية مهندسا فى وزارة الأشغال العامة، ثم أسس بصحبة شريك آخر شركة للبناء نجحت بشكل كبير فتحسنت أوضاعه المادية كثيرا، لكنه كان أيضا يكرس الكثير من وقته لنشاطاته السياسية وفى أواخر العام 1957عقد لقاء فى الكويت ضم ستة أشخاص هم: ياسر عرفات وخليل الوزير وعادل عبد الكريم ويوسف عميرة وتوفيق شديد وعبد الله الدنان الذى وكانت تلك الاجتماعات هى اللبنات المؤسسة للحركة وفى اللقاء التأسيسى الأول لحركة واتفقوا على اسم الحركة كما يقول عرفات: «هى حركة التحرير الوطنى الفلسطينى وصارت «فتح».. ثورة حتى النصر المبين».
تحولات فى الكفاح المسلح.. ومحاولات إسرائيلية لاغتيال أبوعمار، وكان الهدف من تأسيس حركة فتح بسيطا ولا ينطوى على أية اعتبارات اجتماعية أو أيديولوجية، فقد اقتصر على «تحرير فلسطين عن طريق الكفاح المسلح»، وفى هذا الأمر يقول «عرفات»: «لم تكن نتيجة الأوضاع إلا المزيد من اللاجئين، لذا وجدنا أن طريقنا الوحيد هو أن نحمل السلاح ونقاتل، نحن نعتزم إقامة دولة عربية فلسطينية».
عملية علبيون.. انطلاق الثورة الفلسطينية
دارت الأحداث وبدأت فتح تبهر العالم أجمع بأعمالها حتى تم انتخابه عام 1969 من المجلس الوطنى رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وتولى قيادة المقاومة الفلسطينية لتلهب الأرض من تحت أقدام العدو الإسرائيلى وتنفذ عمليات أصابت سهامها قلب العدو الغاشم، واستطاع أبوعمار أن ينتزع الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينى من دول عدم الانحياز عام 1973 وكرس عرفات مكانة هذه المنظمة وظهر ذلك فى قمة الرباط عام 1974 حيث اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينى ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطينى، وفى نفس العام ألقى «عرفات» خطابا تاريخيا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مطالبا المجتمع الدولى بألا يسقط غصن الزيتون من يده ليشكل هذا الخطاب بداية التحول إلى مفهوم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والعمل السياسى، لتعلن إسرائيل أنها ستسحق منظمة التحرير الفلسطينية وحاولت مرارا وتكرارا اغتيال «أبوعمار».
استقلال دولة فلسطين.. وعرفات رئيسا لها
من المحطات المهمة فى حياة ياسر عرفات الانتفاضات الفلسطينية، ففى ديسمبر 1987دهس مستوطنون إسرائيليون بسيارتهم عن قصد وتعمد أربعة عمال فلسطينيين وأصابوا سبعة آخرين فى مخيم جباليا بقطاع غزة، خرج الآلاف من سكان جباليا وغيرها فى قطاع غزة فى تظاهرات عنيفة احتجاجا على «الجريمة»، كان عرفات فى بغداد عند اندلاع الانتفاضة، وأدرك فوراً أن الكفاح قد دخل حقبة جديدة، وراح يعمل من أجل أن تستمر الانتفاضة إلى أطول مدى ممكن، واستمد عرفات من الانتفاضة قوة سياسية كبيرة وساعده فى ذلك حجم التعاطف الشعبى والرسمى عربيا ودوليا مع صورة الشعب الأعزل الذى ينتفض للتخلص من الاحتلال، لقد قلبت الانتفاضة الـمعادلة السياسية: فمنذ السنة الأولى لاندلاعها أصبح العالـم كله ينظر إلى عرفات بعين الاحترام والتبجيل رغم محاولات إسرائيل والولايات المتحدة لتجاوزه.
لم يكن سهلا على عرفات أن يقنع رفاقه بأن الأوضاع تقتضى مرونة وتغييرات فى أدوات النضال، خاصة وأن المنظمة باتت مسؤولة عن الضفة الغربية وقطاع غزة بعد قرار الأردن فك ارتباطه بالضفة الغربية، وهى تقود انتفاضة شعبية سلمية، ولكن بعد جهود مكثفة استطاع عرفات الحصول على إقرار من قيادة المنظمة بتغيير استراتيجيتها، وذلك فى الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطنى الفلسطينى فى الجزائر نوفمبر 1988 التى اعتمدت وثيقة إعلان الاستقلال، وتلاها ياسرعرفات بنفسه «إن المجلس الوطنى يعلن، باسم الله وباسم الشعب العربى الفلسطينى قيام دولة فلسطين على أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف».
ثم عام 1989 تم انتخاب ياسر عرفات رئيسا لفلسطين من قبل المجلس الوطنى، ليقضى بعدها 27 عاما فى منفاه ليعود فيما بعد عام 1994، ويبدأ بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية، ومرت الأحداث سريعا واندلعت الانتفاضة الفلسطينية بعدما دنس شارون الحرم القدسى، وتوترت العلاقات بين «عرفات» وأمريكا المتآمرة عليه مع إسرائيل، ليعلن استمرار الانتفاضة الفلسطينية بالبندقية والحجارة.
حصاره فى رام الله ليصبح شهيدا
أسوأ المحطات فى حياة «عرفات» وأكثرها شرفا وعزة فى الوقت ذاته، حصاره فى المقر الرئاسى برام الله، هو حصار فرضه الجيش الإسرائيلى على الرئيس الفلسطينى فى فترات الانتفاضة الثانية وأثناء الحصار تدهورت صحة ياسر عرفات كليا مما أدى إلى سفره إلى فرنسا لتلقى العلاج، ليقول كلماته الخالدة: «يريدونى إما قتيلا وإما طريدا وإما أسيرا.. لا أنا بقلهم شـــهيدا شـــهيدا شـــهيدا»، مات عرفات2004 وظلت حكايته بداخل كل فلسطينى وعربى، فنحن أمام رجل عاش قضيته وكان لديه إحساسه العالى بالمسؤولية، ومارس النضال فى الأردون والكويت ولبنان، وفى كل دول العالم من أجل فلسطين، وحلم بتحرير الوطن وتحقيق مبادئ العدالة والثورة وحقوق الإنسان.