دور الفرد فى التاريخ
مضت مواكب التاريخ تتقدمها دول وتتأخر فيها غيرها، وبين حقبة وأخرى تتبدل المواقع، ويتقدم المتأخرون والعكس. ولأن الدول تتأسس على ركائز اجتماعية عمادها البشر، فحركة التاريخ إنما هى فى جوهرها توثيق لحركات البشر.
وعلى امتداد كتاب الزمن المفتوح لمعت بلدان وتألق نجمها، وكان لبعض أبنائها فضل فى هذا اللمعان، بقدر تميزهم الفردى الواضح وقدرتهم على الاندماج فى جماعتهم وسياقهم.
وعلى امتداد أيام رمضان نفتح تلك المساحة لاستضافة باقة من رموز التاريخ القديم والحديث، ممن لعبوا أدوارا عظيمة الأهمية والتأثير، وقادوا تحولات عميقة الفعل والأثر فى مجتمعاتهم، وربما فى العالم وذاكرته ووعيه بالجغرافيا والزمن والقيم، فكانوا مصابيح مضيئة فوق رؤوس بلدانهم، حتى أننا نراها اليوم ونستجلب قبسا من نورها، تقديرا لأدوار فردية صنعت أمما وحضارات، ولأشخاص امتلكوا من الطاقة والطموح والإصرار ما قادهم إلى تغيير واقعهم، وإعادة كتابة التاريخ.
غاندى والنضال السلمى
الوصول إلى مفهوم واع لأهمية النضال السلمى فى مواجهة الظلم والاستعمار كان القضية الأساسية أمام أعين «غاندى»، فالزعيم الهندى كان مثالا يحتذى به فى الترسيخ للمواجهة السلمية للعنصرية والاستعمار، دافع عن حقوق الهنود فى جنوب أفريقيا وذاع صيته فى مواجهة القوانين الظالمة لقوى الاستعمار الإنجليزى ضد الأقلية الهندية، ثم عاد إلى الهند ليكرس حياته للنضال من أجل بنى قومه حتى خلد التاريخ اسمه بأحرف من ذهب كواحد من الذين أرسوا مبدأ السلمية لنيل الاستقلال.
مسيرة الملح
نجح غاندى فى قيادة الشارع الهندى فى مظاهرات سلمية مهمة كان لها أثر الكبير على المستويين المحلى والدولى، فبعد أن فرض الاحتلال الإنجليزى قانونا يحظر جمع وبيع الملح على الهنود فى الوقت الذى يعتبر فيه الملح عنصرا أساسيا ضمن أى غذاء هندى وواصل الاحتلال فى قراراته بفرض ضرائب على فئات كثيرة من الشعب الهندى جاء دور غاندى الذى دعا لمسيرة كبيرة بالسير لمسافة قدرها 390 كيلو متر إلى بحر العرب احتجاجا على سياسات الإنجليز.
فى هذه الفترة كتب غاندى خطابا إلى اللورد إيدوين، نائب الملك البريطانى، قبيل المسيرة بأيام قليلة قائلا: «طموحى هو تغییر رأى الشعب البريطانى من خلال اللاعنف لأجعلهم يرون الخطأ الذى ارتكبوه تجاه الهند»، بعدها خرج غاندى مرتديا الوشاح الأبيض مع قرابة 80 من مناصريه وظل فى مسيرته لينظم إليها متظاهرون هنديون حتى وصل إلى مدينة داندى الساحلية، وعم العصيان المدنى فى أنحاء الهند وقام الاحتلال بسجن ما يقارب 60 ألف هندى فى مقدمتهم غاندى ليتردد اسمه بقوة فى أرجاء العالم واختارته مجلة التايم الأمريكية حينها شخصية العام فى عام 1930.
استطاع غاندى أن يجمع بين السياسة والأخلاق والدين، فكان رجلا متسامحا متخذا من النضال السلمى منهجا فى الحياة، فى نفس الوقت لم يترك العبادة فقرأ الإنجيل كله، وكان متعبدا إلى درجة أنه انتقل إلى الانعزال والبقاء للدين فقط، وحقيقة الأمر أن غاندى كان له فكر وفلسفة يحتذى بها، كان يرى أن النجاح فى أى عملية احتجاجية تتسم بالعنف عملا مؤقتا وليس دائما ومن أقواله الشهيرة: «أنا أقف ضد العنف لأنه حينما يستخدم فى الخير يكون الخير الحاصل مؤقتا فى حين يكون الشر الناتج عنه دائما».
كيف استقى غاندى أفكاره
أفكار غاندى كان يستقى كثيرا منها من الفيلسوف الروسى «توليستوى»، لدرجة أنه أطلق اسم «عزبة توليستوى» على أحد الأراضى المنتجة فى جنوب أفريقيا تيمنا به، وكان يؤمن أن الشر لا يجب أن يواجه بشر وإنما الخير يجب أن يكون مواجها للشر، وهو ما طغا على فكره بشكل كبير، إذ انتهج الطرق السلمية فى كل احتجاجاته سواء كان فى جنوب أفريقيا أو فى الهند، حيث مكث غاندى فى أفريقيا ما يقرب من 22 عاما فى بداية حياته.
لازمت إنجلترا غاندى فى كثير من المواقف، فإلى جانب الاستعمار الإنجليزى فى الهند وجنوب أفريقيا، ذهب غاندى فى بداية حياته إلى إنجلترا، وتحديدا عام 1882 فى محاولة منه لتعلم القانون، إلا أنه لم يمكث بها كثيرا، خاصة أن الأمور المادية لم تكن على ما يرام، فعاد إلى الهند فى عام 1890، وعمل كاتبا للعرائض القانونية، ثم تلقى عرضا من مؤسسة محامية تعمل فى مدينة ناتال بجنوب أفريقيا، وبالفعل سافر وبدأت رحلة جديدة فى حياة الملهم مهاتما غاندى.
غاندى فى جنوب أفريقيا
كان غاندى مدافعا عن حقوق العمال فى مدينة دوربان التابعة لولاية «ناتال» بجنوب أفريقيا، فى حين كانت هناك الكثير من الإجراءات العنصرية التى تتخذها الحكومة ضد الهنود الفقراء، وكانت تفرض عليهم ضرائب باهظة بهدف تهجيرهم ومنع وصول هنود جدد إلى جنوب إفريقيا، وهو الأمر الذى لم يطيقه غاندى، ودافع عن حقوق العمال ضد التمييز العنصرى من حكومة البيض فى هذا التوقيت بل وتعلم بعض الإسعافات الأولية حتى يقوم على خدمة المرضى من الفقراء وأفنى وجوده فى دوربان للدفاع عن المضطهدين والمظلومين بل كان فى كثير من الأوقات ينفق من أموال عمله على الفقراء من العمال.
لم يكن يرغب غاندى فى البقاء فى جنوب أفريقيا كثيرا، لكن الظروف السياسية جعلته يعيش بها قرابة الـ22 عاما، خاصة بعد أن أعلنت الحكومة فى جنوب أفريقيا إصدار تشريع جديد يقضى بمنع الهنود من حقهم فى الاقتراع العام ليبدأ كفاح غاندى فى مواجهة القوانين الظالمة، ووسط جهل كثير من الهنود الموجودين فى جنوب أفريقيا بالقانون فى هذا التوقيت مكنت دراسة غاندى للقانون من الدفاع عن حقوق الهنود بل واستطاع أن يثبت عدم شرعية هذا القانون وتمكن من إسقاطه.
توالت الأحداث داخل جنوب أفريقيا، وكرس غاندى حياته للدفاع عن العمال والمضطهدين، وأسس صحيفة الرأى الهندى وأصدرها باللغة الإنجليزية وبلغات هندية أخرى، ليس ذلك فحسب بل لجأ إلى منطقة زراعية بسيطة وأطلق عليها مستعمرة فينيكس، وعمد إلى نقل كثير من العمال والمضطهدين إلى العيش بها، وبالفعل عزف إليها كثير من العمال وركزوا نضالهم السلمى ضد حكومة البيض، وأثر ذلك على كثير من الصناعات التى كان يعمل بها الهنديون.
نضال غاندى ضد الإنجليز فى جنوب أفريقيا
وخلال فترة وجود غاندى فى جنوب أفريقيا تعرض غاندى للسجن أكثر من مرة، بسبب نضاله ضد الإنجليز، وفى إحدى المرات فرضت الحكومة قانونا جديدا على المهاجرين الآسيويين إلى جنوب أفريقيا، وهو القانون الذى يقضى بضرورة تجديد الإقامة وتسجيل أنفسهم فى سجلات خاصة، وهو نوع من التمييز العنصرى ليزيد من الطين بلة ويزيد من حماس غاندى لمواجهته بشتى الطرق، حتى إن الحكومة الجنوب أفريقية قامت بملاحقة عدد كبير من الآسيويين فى هذا التوقيت وسجنتهم.
وهنا أرسل غاندى وفدا من ممثلى الهنود فى جنوب أفريقيا للتفاوض السلمى مع الإنجليز واقترح ثلاثة شروط للمقاومة السلمية أولها أنه يجب على المستعدين للمقاومة للقانون فى حال تنفيذه أن يجددوا تعهدهم بالمقاومة، بالإضافة إلى جمع تبرعات لتغطية نفقات سفر الوفد وإقامته فى لندن وكذلك أن يكون عدد الوفد ثابتا، وبالفعل قابل وفد الهنود وزير المستعمرات البريطانية ليعلن الوزير علنا عدم رضاه عن القانون لكن قامت قوات الشرطة بالقبض على غاندى وعدد آخر من الهنديين لكن المسيرات السلمية ضربت جنوب أفريقيا اعتراضا على ممارسات الإنجليز، وكذلك خرجت مسيرات فى الهند نفسها تندد بما يلاقيه الهنود فى جنوب أفريقيا، بل ضغطت على نائب ملك إنجلترا لتقديم احتجاج إلى حكومة جنوب أفريقيا بسبب المعاملة السيئة التى يتلقاها الهنود.
نضال غاندى ضد حكومة البيض فى جنوب أفريقيا استمر لسنوات، وكانت السلمية هى السمة الغالبة عليه، فواجه الشرطة بها ولم يخرج أو يدعو لأى مسيرات تحض على العنف ومن هنا ذاع صيته بين كثير من دول العالم، خاصة أن ممارسات الشرطة لم تتوقف ضد الهنود، إلا أن غاندى لم يقف أيضا مكتوف الأيدى، واستمر فى دفاعه عن حقوق العمال والمضطهدين ضد حكومة البيض.
عودة غاندى للهند
انتهت رحلة غاندى داخل جنوب أفريقيا، إلا أنه أسس للهنود بداخلها حياة أكثر عدلا فطوال وجوده كان حريصا على إرساء مبادىء المساواة من خلال النضال السلمى ضد حكومة البيض، وبقى الهنود يتمتعون بقدر أفضل من الحرية والعدالة الاجتماعية بفضل تحركات غاندى، وفى عام 1915 عاد مرة أخرى إلى موطنه الأصلى فى الهند، لكنه أفنى عمله على النضال ضد الظلم الاجتماعى والاستعمار وكان شديد الاهتمام بمشاكل الفقراء والمنبوذين اجتماعيا وسلك كل الطرق السلمية فى التفاوض من أجل حل مشكلاتهم.
وحقيقة الأمر أن دفاع غاندى عن حقوق الفقراء والمهمشين لم يعتمد فقط على المسيرات أو النضال السلمى ففى كثير من الأحيان كان يلجأ للتفاوض أو السياسات المتوازنة فى التعامل مع خصومه، فمثلا كان يؤيد الاحتلال البريطانى فى بعض مواقفه حينما كان ذلك فى صالح مؤيديه، وفى حين آخر كان يقف ضدهم تماما ما دام لم يكن ذلك فى مصلحة بنى وطنه، فعلى سبيل المثال أيد الإنجليز فى الحرب العالمية الأولى ضد حلف المحور فى حين كان شديد المعارضة للاحتلال البريطانى فى الهند وطالب باستقلال دولته لدرجة أنه قاد حملة للعصيان المدنى ضد الاستعمار البريطانى، فى عام 1922، وهذا الأمر أدى إلى صدام كبير بين الشعب والقوات البريطانية وحينها أصدر الاحتلال حكما عليه بالسجن لست سنوات، لكن أفرج عنه قبل انقضاء مدته فى عام 1926.
ذاع صيت غاندى كمناضل كبير داخل الهند، واستمر فى كفاحه للانتصار لحقوق الفقراء والعمال والفلاحين، وهو ما ساعد فى التفاف كثير من الهنود حول غاندى، وفى عام 1932 قرر غاندى الصيام حتى الموت احتجاجا منه على قانون جديد ينتهج التمييز ضد المنبوذين الهنود، وبالفعل توصل إلى زيادة عدد النواب المنبوذين وإلغاء نظام التمييز الانتخابى، وهو نجاح كبير يكتب لغاندى الذى طالما ظل يدافع عن حقوق الفقراء والأقليات فى بلاده.
وأهم ما يميز غاندى أنه كان صادقا مع نفسه ومع من حوله، فاتخذ من المقاومة السلمية منهج حياة وكان قديسا فى نفسه، تنزه عن المصالح الشخصية فنجح فى أن يكسب قلوب الجميع، كان متسامحا مع نفسه وكان يقول دائما: «رمانى الناس بالحجارة جمعتها وبنيت بها بيتا»، ومن هذه الجملة نفهم كيف كان يفكر غاندى؟.. الزعيم الهندى كان دائما يميل إلى الخير والسلم وحتى حينما يهاجمه البعض أو يسيئون إليه كان يرد الإساءة بالإحسان، ويقول أيضا: «إذا ردت الإساءة بالإساءة فمتى تنتهى الإساءة».
استقالة غاندى من المؤتمر الهندى
فى عام 1934 قرر غاندى الاستقالة من حزب المؤتمر الهندى، وتفرغ للعمل السياسى السلمى، وقاد حملة جديدة على الاحتلال الإنجليزى فى عام 1940 احتجاجا على ما أعلنته إنجلترا فى هذا التوقيت باستمرار الهند دولة محاربة لجيوش المحور دون أن تحصل على استقلالها، واستمر نضال غاندى ضد الإنجليز، وفى عام 1943 خاطب الإنجليز بجملته الشهيرة قائلا: «اتركوا الهند وأنتم أسياد»، وهو الأمر الذى اعتبرته بريطانيا تهديدا كبيرا وقادت حملة اعتقالات وتم القبض على غاندى نفسه ولم يفرج عنه إلا فى عام 1944 وزاد من مخاوف غاندى دعوات انقسام الهند على أساس دينى وحاول إقناع الجهات المتنازعة واستمرارها تحت لواء واحد، إلا أنه فشل وانقمست الهند وسادت الاضطرابات داخل الهند وباكستان وقتل الآلاف بسبب الخلافات بين الهند وباكستان وأخذ يدعو إلى الوحدة الوطنية بين الهنود والمسلمين، كما طالب الهندوس وكانوا الأغلبية حينذاك باحترام الأقلية المسلمة.
اغتيال غاندى
مطالبات غاندى المتكررة للأغلبية الهندوسية فى الهند باحترام الأقلية المسلمة كلفته حياته، حيث اعتبر البعض دعوات غاندى بأنها تمثل خيانة عظمى وفى يناير 1948 أطلق أحد الهندوس المتطرفين ثلاث رصاصات قتل على أثرها المهاتما غاندى عن عمر يناهز 78 عاما ليسدل الستار على واحد من أهم الشخصيات السياسية التى دعت للكفاح الوطنى ضد المستعمر وضد العنصرية فى تاريخ البشرية، حيث أفنى غاندى حياته فى الدفاع عن مبادئه التى تمسك بها دفاعا عن المضطهدين وحقوق الأقليات.
وعلى الرغم من أن حياته كانت مليئة بالأحداث، فإن مولده لم يكن يصدق أحد أنه سيتحول لزعيم تاريخى فى يوم من الأيام، فكان فى صغره خجولا للغاية ولم تكن له صداقات كثيرة أثناء دراسته، غاندى ولد لعائلة محافظة وشغل والده منصب رئيس وزراء إمارة بوربندر فى الهند وتزوج وهو فى سن الثالثة عشر، كعادة التقاليد الهندية فى هذا التوقيت، درس فى الهند وسافر إلى لندن لدراسة الحقوق فى بداية حياته، ولم يمكث بإنجلترا إلا قليلا، ثم عاد إلى الهند ومنها إلى جنوب أفريقيا.
وفى الوقت الذى وهب فيه غاندى حياته للدفاع عن حقوق الفقراء والمنبوذين، فإن محكمة مالاوى أصدرت فى 2018 حكما بإيقاف العمل فى تشييد تمثال لغاندى بعد اتهامات بأنه كان عنصريا، رغم أنه قضى فى أفريقيا قرابة الـ22 عاما، ويرجع ذلك إلى ما وصفه البعض بعنصرية غاندى فى الحديث عن سكان أفريقيا ووصفهم بالهمج فى بعض كتاباته.