-تزوجت صوفيا أندرييفنا تولستايا الكونت ليف تولستوى فى عام 1862م، وأصبحت تحمل لقب كونتيسة، حين كانت فى سن الـ18 عاما
«ليسامح الناس تلك المرأة التى ربما كانت عاجزة، منذ أعوام الشباب، عن أن تحمل على كتفيها الضعيفتين تلك المهمة الرفيعة، أن تكون زوجة رجل عبقرى وإنسان عظيم». هذا ما كتبته صوفيا أندرييفنا تولستايا فى عام 1913 عقب وفاة زوجها كاتب روسيا الكبير ليف تولستوى، بعد أن عاشت حوالى نصف قرن إلى جانبه، وشاطرته صعوبات الحياة فى المجتمع القيصرى المتزمت، وفى صعوده سلم المجد حتى أصبح من أشهر كتاب روسيا فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
إن يوميات صوفيا أندرييفنا تولستايا هى بمثابة رواية للأحداث التى تجسد خصال الكاتب وموقف زوجته من سلوكياته معها ومع الآخرين، وأفكاره الطليعية فى ذلك الزمان، ومعاناتها بسبب هذا كله.
تزوجت صوفيا أندرييفنا تولستايا الكونت ليف تولستوى فى عام 1862م، وأصبحت تحمل لقب كونتيسة، حين كانت فى سن الـ18 عاما، بعد أن شبت بلا هموم فى كنف أبيها أندريه بيرس طبيب الأسرة القيصرية الذى عاش مع أسرته فى شقة حكومية فى داخل الكرملين. واكتسبت صوفيا الكثير من العادات الأرستقراطية وحصلت على تعليم جيد من إجادة ثلاث لغات أجنبية، هى الفرنسية والإنجليزية والألمانية، والعزف على البيانو، ناهيك عن الاطلاع على الآداب العالمية.
اتسمت صوفيا أندرييفنا تولستايا بطبيعة شاعرية وبمواهب عدة تركت أثرها فى العلاقات مع زوجها لاحقًا، حيث أحبت صوفيا سحر الطبيعة فى الريف الروسى، كما أحبت الموسيقى والفن عموما، وخالفت زوجها فى تقييمه للفنون الذى ورد فى كتابه «حول الفن».
وكان ليف تولستوى قد أصبح آنذاك كاتبا معروفا ومنافسا حتى تورجينيف فى الشهرة، وترجمت أعماله إلى اللغات الأجنبية، وقد شق طريقه فى ميدان الأدب بعد تجارب حياتية قاسية، وحينما مرت حياتة بفترة قاسية، وخسر جزءا من ممتلكاته، دون ذلك فى مذكراته التى أعطاها بعد الزواج إلى صوفيا والتى تضمنت كل مشاهد حياته آنذاك، وقد فزعت صوفيا من فظاعة الأمور الواردة فيها، وهو ما ترك أثره فى علاقاتها مع زوجها لاحقا.
أحبت صوفيا زوجها بصدق، ولهذا كانت مستعدة من أجل كسب حبه للتضحية بكل شىء وحتى برغباتها الشخصية وذلك لكى تحرر زوجها من جميع المهام العائلية، فأخذت على عاتقها جميع الأعمال المنزلية والإدارية والمحاسبة ومراقبة دور النشر، بالإضافة إلى استنساخ وإعادة نشر غالبية أعماله الأدبية والفلسفية، وقامت فى الواقع بدور المحرر وبمتابعة الإصدارات، والدخول فى معارك حقيقية مع الرقابة القيصرية، وحتى قابلت القيصر ألكسندر الثالث راجية رفع الحظر المفروض على الأعمال الكاملة لزوجها وبعض مقالاته.
كما تولت صوفيا مهام خياطة الملابس وتربية الأطفال، حيث ولدت 13 طفلا توفى أربعة منهم، وتعليمهم فى ظروف القرية التى لم توجد فيها مدارس. وعندما أراد تولستوى افتتاح المطاعم الشعبية للجياع فى فترة الجوع الذى ساد فى بعض مناطق وسط روسيا عمدت صوفيا إلى تنظيم حملة التبرعات وإرسال النقود إلى زوجها الذى تولى مع بناته مهام إغاثة الجياع.
كانت صوفيا تقوم بكافة الأعمال بغية التخفيف عن زوجها والعناية به لدى المرض، ولكى يتفرغ للتأليف والمطالعة، وتحملت أعباء إطعام الضيوف الكثيرين من أجل تبادل الحديث مع الكاتب الكبير، ولقد دفعت صوفيا لهذا ثمنا غاليا من المعاناة النفسية والمرض، كما يتبين من سطور اليوميات التى تضمنت الكثير من تفاصيل الحياة اليومية فى ضيعة ياسنايا بولينا، وفى بيت العائلة فى موسكو.
«وهبت كل قواى إلى العائلة، لم أتعلم كما يجب، ولم أتقن أية مهنة، ولم أعرف الناس بقدر كاف، ولم أتعلم منهم شيئا كثيرا، لكن فات الأوان.. ولكل إنسان قدره. وقدرى أن أكون عنصر خدمة لزوجى الكاتب، وحسنا فعلت: فقد خدمت على أقل تقدير إنسانا جديرا بالتضحية من أجله».
فى «يوميات الكونتيسة صوفيا تولستايا» يجد القارئ وصفا دقيقا لمعاناة ليف تولستوى نفسه لدى كتابة أعماله، تعامله مع الناشرين، ومدى تأثره بالأدب الإنجليزى والأوروبى ولا سيما تشارلز ديكنز، بالإضافة إلى ما عاناه من صراع دائم.
لقد أرادت صوفيا، كما يتبين من مذكراتها التى يغلب عليها الكتابة بشكل جمل متقطعة ومتداعية كتوارد الخواطر، أن يحيا أولادها وبناتها حياة كريمة، ولهذا كانت تدخل فى مشادات دائمة مع زوجها بصدد موارد نشر أعماله فى روسيا وخارجها، هو ما نتعرف عليه من خلال اليوميات التى تقدم فيها وصفا دقيقا لحياتها فى الأسرة إلى جانب حياة زوجها ونشاطه الإبداعى.
إن أول ما يتعرف عليه القارئ بمجرد أن يبدأ فى قراءة سيرة صوفيا أندرييفنا تولستايا هو السبب الرئيسى الذى دفعها لكتابة يومياتها، والذى يتمثل، كما تصرح، بتصريح زوجها وهو تولستوى لها بأنه «لا يصدق حبى له»، فى البداية تشير صوفيا إلى أن عادة كتابة اليوميات ارتبطت لديها بالسأم، وقد غفلت عن هذا الأمر لفترة، إلا أنها عادت للكتابة مرة ثانية بسبب نفس الدافع.
تقول صوفيا فى مذكراتها بتاريخ 8 أكتوبر 1862: «لقد مضى هذان الأسبوعان عندما تراءى لى أن علاقاتى بزوجى بسيطة، وعلى أى حال كنت أشعر بالخفة، فقد كان زوجى مثل دفتر يومياتى ولم أخف عنه شيئًا. ولكن منذ يوم أمس حين قال لى إنه لا يصدق حبى له، بدا الأمر فظيعا».
وفى يوم 16 ديسمبر، تتحدث صوفيا عن غيرتها من امرأة تعتقد أن زوجها معجب بها «يساورنى الاعتقاد بأننى سأقتل نفسى من الغيرة. إنه مغرم بها أكثر من أى وقت مضى. إنها مجرد امرأة، بدينة، بيضاء، شىء فظيع.. لو استطعت أن أقتله، ومن ثم أعيد خلقه من جديد، بهذه الهيئة بالضبط- تعنى بالطريقة التى تتمنى أن تراه عليها لفعلت ذلك عن طيب خاطر».
وفى يوم 9 يناير 1863 تقول صوفيا: «لم أشعر فى حياتى أبدا بالتعاسة لإدراكى مدى إحساسى بالذنب. ولم أتصور أبدا بأننى يمكن أن أعانى من الذنب بهذه الدرجة. إننى أشعر بالضيق جدا لأن الدموع تخنقنى طوال اليوم. أنا أخشى التحدث معه، وأخشى النظر إليه، فلم يكن بالنسبة لى محبوبا وعزيزا لدى بهذا القدر أبدًا، ولم أتصور أبدا أننى تافهة وحقيرة بهذا القدر. إنه لا يحتدم غيظا، وما زال يحبنى، ونظراته وديعة وذات قدسية للغاية، بوسع المرء أن يموت من السعادة والذل مع مثل هذا الرجل. لم أشعر أبدا بمثل هذا الشقاء. أنا مريضة جسديا والسبب أخلاقى. كنت أعانى من الألم لدرجة أننى فكرت بأننى سأنزل الجنين. وأصبحت كالمجنونة. إننى أصلى طوال اليوم كما لو أن ذنبى سيكون لهذا أقل وطأة، وكما لو أننى أستطيع بذلك التعويض عما فعلته. تتوثب الطمأنينة إلى قلبى حين يكون غائبا. بوسعى أن أبكى وأن أحبه، لكن حين يكون موجودا هنا أعانى من تأنيب الضمير، وتعذبنى نظرته الحانية ووجهه الذى لم أعد أتطلع إليه منذ مساء يوم أمس، هو الحبيب إلى نفسى كثيرا. وكيف أستطيع أن أسىء إليه بشكل ما. كنت أفكر دوما فيما إذا أستطيع أن أكفر عن ذنبى أم لا لتلفظى بتلك الكلمة الحمقاء، وماذا بوسعى فعله ليكون الأمر أفضل بالنسبة له. أنا لا أستطيع أن أحبه أكثر، لأننى بلغت أقصى الذروة فى حبه، بكل قواى، لدرجة أنه لا توجد فكرة أخرى، ولا رغبات أخرى لدى، لا يوجد أى شىء لدى سوى حبى له».
وفى يوم 11 يناير من نفس العام، تقول صوفيا: «لقد هدأت أعصابى قليلا، لأنه صار يعاملنى بشكل أفضل. لكن ما زالت حية فى الذاكرة المحنة كلها، ولكن أى ذكريات لدى ستولد ألما ملموسا فظيعا فى كل رأسى وجسدى. إنه ملموس جسديا لأننى أشعر كيف يتسلل الألم إلى جميع عروقى وأعصابى».
وتضيف صوفيا: «إنه لم يقل شيئا وحتى لم يلمح إلى يومياتى. لا أعرف فيما إذا قرأها. وأنا أشعر بأن يومياتى كانت سخيفة، ولا تسرنى إعادة مطالعتها. أنا وحيدة تماما، وأحس بالرعب الشديد، ولهذا أردت كتابة الكثير وبصدق، لكن الأفكار تضيع بسبب الفزع. أنا أخشى الخوف، لأننى حامل».