نستكمل، اليوم، قصة السيدة مريم، عليها السلام، مع الملائكة والبشارة، لقد صارت العذراء فى موقف صعب، فقد خضعت لأمر الله، لكنها تشعر بالخوف والقلق، ولا تعرف كيف تواجه العالم.
يقول الإمام الحافظ ابن كثير فى تفسير قوله تعالى فى سورة مريم «فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة»، أى: فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة وهى نخلة فى المكان الذى تنحت إليه، وقد اختلفوا فيه، فقال السدى: كان شرقى محرابها الذى تصلى فيه من بيت المقدس، وقال وهب بن منبه: ذهبت هاربة، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر، ضربها الطلق، وفى رواية عن وهب: كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس، فى قرية هناك يقال لها: «بيت لحم».
وقوله تعالى إخبارا عنها «قالت يا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا»، فيه دليل على جواز تمنى الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذى لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها فى خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، فقالت: «يا ليتنى مت قبل هذا»، أى قبل هذا الحال، «وكنت نسيا منسيا»، أى لم أخلق ولم أك شيئا . قاله ابن عباس.
وقال السدى: قالت وهى تطلق من الحبل، استحياء من الناس: يا ليتنى مت قبل هذا الكرب الذى أنا فيه، والحزن بولادتى المولود من غير بعل «وكنت نسيا منسيا» نسى فترك طلبه، كخرق الحيض إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر، وكذلك كل شىء نسى وترك فهو نسى، وقال قتادة: «وكنت نسيا منسيا»، أى: شيئا لا يعرف، ولا يذكر، ولا يدرى من أنا، وقال الربيع بن أنس: «وكنت نسيا منسيا» وهو السقط، وقال ابن زيد: لم أكن شيئا قط.
«فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» قرأ بعضهم «من تحتها» بمعنى الذى تحتها، وقرأ آخرون: «من تحتها» على أنه حرف جر.
واختلف المفسرون فى المراد بذلك من هو؟ فقال العوفى وغيره، عن ابن عباس: «فناداها من تحتها» جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، وكذا قال سعيد بن جبير، والضحاك، وعمرو بن ميمون، والسدى، وقتادة: إنه الملك جبريل عليه الصلاة والسلام، أى: ناداها من أسفل الوادى.
وقال مجاهد: «فناداها من تحتها» قال: عيسى ابن مريم، وكذا قال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: قال الحسن: هو ابنها، وهو إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير: إنه ابنها، قال: أولم تسمع الله يقول: «فأشارت إليه»، واختاره ابن زيد، وابن جرير فى تفسيره.
وقوله «ألا تحزنى» أى: ناداها قائلا لا تحزنى، «قد جعل ربك تحتك سريا»، قال سفيان الثورى وشعبة، عن أبى إسحاق، عن البراء بن عازب: «قد جعل ربك تحتك سريا» قال: الجدول، وكذا قال على بن أبى طلحة، عن ابن عباس: السرى: النهر، وبه قال عمرو بن ميمون: نهر تشرب منه، وقال مجاهد: هو النهر بالسريانية، وقال سعيد بن جبير: السرى: النهر الصغير بالنبطية، وقال الضحاك: هو النهر الصغير بالسريانية، وقال إبراهيم النخعى: هو النهر الصغير، وقال قتادة: هو الجدول بلغة أهل الحجاز، وقال وهب بن منبه: السرى: هو ربيع الماء، وقال السدى: هو النهر، واختار هذا القول ابن جرير، وقد ورد فى ذلك حديث مرفوع، فقال الطبرانى عن عكرمة مولى ابن عباس يقول: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن السرى الذى قال الله لمريم: «قد جعل ربك تحتك سريا»، نهر أخرجه الله لتشرب منه»، وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.
وقال آخرون: المراد بالسرى: عيسى، عليه السلام، وبه قال الحسن، والربيع بن أنس، ومحمد بن عباد بن جعفر، وهو إحدى الروايتين عن قتادة، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والقول الأول أظهر، ولهذا قال بعده: «وهزى إليك بجذع النخلة» أى: وخذى إليك بجذع النخلة، قيل: كانت يابسة، قاله ابن عباس، وقيل: مثمرة، قال مجاهد: كانت عجوة، وقال الثورى، عن أبى داود نفيع الأعمى: كانت صرفانة، والظاهر أنها كانت شجرة، ولكن لم تكن فى إبان ثمرها، قاله وهب بن منبه، ولهذا امتن عليها بذلك، أن جعل عندها طعاما وشرابا، فقال: «تساقط عليك رطبا جنيا».