تلقى محمد محمود باشا، رئيس الوزراء، اتصالا يحمل صاحبه شكوى من منعه دخول إحد قاعات نادى «كلوب محمد على» لتناول العشاء، فانفعل رئيس الوزراء، وبدأ معركة خاصة فى ميدانها وأسلحتها وأهدافها، حسبما يذكر الكاتب الصحفى «صبرى أبوالمجد» فى الجزء الثانى من كتابه «سنوات ماقبل الثورة-1930 1952»، وبالرغم من أنها كانت تخص قلة قليلة فى المجتمع ،فإنها شدت الانتباه واهتمت بها الصحافة.
كان نادى «كلوب محمد على» وهو «النادى الدبلوماسى حاليا»، أهم وأشهر الأندية الأرستقراطية فى مصر قبل ثورة 1952.. كانت فيه سهرات الأمراء والنبلاء من أسرة محمد على، وفى مايو 1939 بدأت فيه قصة المعركة التى يرويها «أبوالمجد»، قائلا: «بعض المصريين من الأغنياء والموسورين، وذوى الوجاهة السياسية والحزبية، اعتقدوا أن مصر استقلت تماما، وعادت إلى أبنائها، وأنهم أصبحوا سادة فى أراضيهم وديارهم، ولكن الأيام أظهرت لهم أنهم كانوا فى اعتقادهم هذا من الواهمين.. كانت غالبية الأمراء والنبلاء، ومن تجرى، ولومن بعيد جدا، الدماء الزرقاء فى أجسادهم، يصرون على أنهم الأعلون دائما فى مصر، وأن أحدا من أبناء المصريين حتى لوأصبح وزيرا، أورئيسا للوزراء لا يمكن أبدا أن يقترب من عتباتهم المقدسة.. كان هؤلاء يرون أنهم من طينة، وبقية أبناء مصر من طينة أخرى، يترفعون عن الحديث باللغة العربية،لأنها لغة الفلاحين المصرييين المملوكين لهم، ويفضلون عليها اللغة الفرنسية، لغة الصالونات وقتئذ».
يضيف أبوالمجد: «لم تكن الأندية الأرستقراطية تسمح للمصريين بالدخول إليها، وإذا سمح لهم بعضويتها، أوبدخولها كضيوف لم يكن من حقهم أن يدخلوا غرفا معينة، وفى بعض الأندية كان المصريون يعاملون أسوأ معاملة وكأنهم طبقة منبوذة محتقرة.. حدث ذات مرة أن أراد أحد أعضاء «كلوب محمد على»، أخطر تلك الأندية الأرستقراطية وأكثرها اعتدادا بالعنصرية التركية، الدخول فى إحدى القاعات للعشاء فيه، فمنعه «المترودوتيل»لأن القاعة محجوزة لأحد هؤلاء السادة الكبار، وثار العضو واتصل بمحمد محمود باشا رئيس الوزراء شاكيا ماحدث من إهانة، وتزامن ذلك مع تلقى «رئيس الوزراء شكاوى من مصريين أعضاء فى نادى الفروسية من سوء ما يلقونه من معاملة.. يؤكد أبوالمجد أن محمد محمود ألقى بالقفاز فى وجه هؤلاء الأمراء وقال كلمته الخالدة: «أنا فلاح وابن فلاح، وهذه مصر للفلاحين من أبنائها، ومن لا يريد أن يعيش فى مصر الفلاحين فليغادرها إلى حيث يريد». كان محمد محمود رئيسا للوزراء من 24 يونيو 1938 إلى 18 أغسطس 1939، وهى الفترة التى دارت فيها هذه المعركة، وهو من مواليد مركز ساحل سليم 24 إبريل 1878 وتوفى 31 يناير 1841، وكان ضمن المعتقلين مع سعد زغلول يوم 8 مارس 1919 ونفى معه إلى مالطا، وأصبح رئيسا لحزب الأحرار الدستوريين من 1929 إلى 1941، ورئيسا للوزراء أكثر من مرة.. وأكدت هذه المعركة فداحة الواقع الاجتماعى المصرى وقتئذ.. يذكر أبوالمجد: «تبادل محمد محمود باشا والنبيل عمرو إبراهيم، الذى كان يرأس بعض تلك الأندية الأرستقراطية اللكمات والطعنات علنا وعلى رؤوس الأشهاد، وانقسم الرأى العام ما بين مؤيد لرئيس الوزراء فى هجومه على الأمراء والنبلاء والمتمصرين من ذوى الدماء الزرقاء التركية والألبانية، وما بين معارض له، وكانت حجة المعارضين أنه أعطى المسألة أكثر مما يجب».
لامت مجلة «المصور»، «محمود باشا»،لأنه أقحم نفسه فى مسألة لا تستحق مثل هذه الضجة، وحسب أبوالمجد، فإن «المصور» نشرت يوم 26 مايو، مثل هذا اليوم، 1939 رسالة من سيدة مصرية حول ما حدث فى نادى الفروسية، بتوقيع «مصرية فلاحة».. قالت فيها: «دهشت جدا حين قرأت نبأ ثورة رفعتكم الجديدة على ما تسميه المجلات والجرائد التى نشرت عنكم ما نشرت نظام الطبقات والتفرقة بين التركية والمصرية، وتساءلت مذهولا من أى تاريخ بدأت هذه التفرقة بين المصريين والأتراك؟.. ويعلم الله أن المطلعين يأسفون أن تهتموا بحكاية لا تستحق إلا أن توضع تحت عنوان: مناقشات ودردشات نسائيات: أى والله ياباشا..التى تكتب هذا الخطاب مصرية صميمة فلاحة تعلم أن من مؤسسى نادى الفروسية سيد باشا خشبة «الصعيدي»، ومحمد باشا حسين «الشرقاوى»، وحيدر باشا «المنياوى»، وعبدالحميد بك الشواربي «القليوبية»، وتعلم أكثر من هذا أن نجلكم العزيز محمود بك من أعضاء النادى، وأن شقيقكم النائب المحترم حفنى محمود بك من زوار النادى ورواده».
سخر البعض من الزج باسم الفلاحين فى المعركة، وكان فكرى أباظة أعنفهم، فكتب في «المصور» يوم 9 يونية، قائلا: «عندما يختلف أرستقراطى مع أرستقراطى فى ناد أرستقراطى على مائدة عشاء، أوعلى زهرة من حديقة غناء يبرز شبح الفلاح الهزيل،الجوعان،العطشان، من أوساط الذهب والماس والفضة والحرير، والقطيفة.. يادنيا النفاق والمغالطات ماأعجبك قولى لنا بالله عليك من هو الفلاح؟..الفلاح الذى نعرفه هو ذلك الذى لا يمتطى مرسيدس الدولة ولا شيفروليه الدولة، والذى لا يأكل ولا يلتهم بنزين الدولة، والذى لا يقبض من الدولة مالا، وإنما يدفع للدولة دمه، ولحمه، ولايمشى إلا بقدميه حافيتين خشنتين مشققتين من الوحل والمطر والشوك والشمس والنار».