كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده «مواليد 1849» يجلس فى داره واجما كئيبا، حين تلقى فرمان الخديو عباس الثانى يوم 3 يونيو عام 1898، بتعيينه مفتيا للديار المصرية، حسبما يؤكد تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا فى الجزء الأول من كتابه «تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده».
يذكر رضا: «أظن أننى كنت أول من قابل الأستاذ بعد العلم بهذه المسألة، ذهبت إلى داره فى عين شمس فألقيته واجما كئيبا فلم أهنئه، فظن أننى لم أعلم، فسألنى ألم تعلم بما جرى فى الإسكندرية؟ قلت: بلى ومالى أراك واجما؟ قال هذه وظيفة ليس فيها عمل، وذكر لى تفصيل ما حصل من أوله إلى آخره، وأن الخديو قال لمستشار الحقانية: «الآن وجدت لك مفتيا تستطيع أن تفهم منه ويفهم منك بلا واسطة ولا ترجمة».
كان اختياره مفتيا دون مشيخة الأزهرلافتا، فالعادة جرت على الجمع بين المنصبين، ولهذا وحسب رضا: «توقع سموه منه أن يرفض الإفتاء بدون المشيخة، فكلف صديقيه مصطفى باشا فهمى رئيس النظار وحسن باشا عاصم رئيس التشريفات أن يحسنا له القبول، وقال للثانى: أخبر صديقك بأنه إذا لم يقبل الإفتاء الآن فإننى أعد ذلك منه إيقاعا لى فى صعوبة شخصية مع الاحتلال «الإنجليزى»،وأنا أعترف بأنه قليل عليه، ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها».. يذكر عباس محمود العقاد فى كتابه «الأستاذ»: «الخديو عباس الثانى كان يستبقى محمد عبده للانتفاع بقدرته وشجاعته، بل للاحتماء بمكانته الدينية أحيانا فى وجه السلطة الأجنبية، لكنه يحاذر أن يسلمه زمام التصريف والتدبير فى مركز من مراكز الأزهر المستقلة.. فتخطاه فى التعيين لمشيخة الأزهر مرتين، وكان ترشيحه لمنصب الإفتاء فى الواقع حيلة مستورة لإبعاده عن المشيخة، وهو أجدر بها وأقدر على الإصلاح فيها من كل من تولاها على عهد الخديو عباس وهو أعرف برجحانه عليهم من سواه».
حاول تلميذه محمد رشيد رضا التخفيف عنه.. يتذكر: «قلت له: إذا لم يكن لغيرك فى هذه الوظيفة غير إفتاء الحكومة فيما تستفتى فيه، وإفتاء محاكمها فى مسائل الحكم بالقتل، فأنت لن تكون كذلك، وخطر فى بالى ما كتبته بعد ذلك فى المنار وهو، أن الرجل الذى أمكنه أن يجعل التحرير فى جريدة الحكومة الرسمية «الوقائع» وسيلة إلى الإصلاح فى جميع أعمال الحكومة ولاسيما وزارة المعارف، ووسيلة إلى الإصلاح الاجتماعى والدينى فى الأمة، لا يعجزه أن يجعل أكبر منصب شرعى وسيلة إلى الإصلاح الإسلامى العام من نواح كثيرة».. يضيف «رضا»: «توقع العارفون بفضل الأستاذ الإمام من الخير والإصلاح بتقليده لمنصب الإفتاء العام فوق ما توقعه هو بتواضعه، وهضمه لنفسه».. يستشهد «رضا» بالتهانى الشعرية التى قالها شعراء فرحا، أشهرها تهنئة شاعر النيل حافظ إبراهيم: «رأيتك والأبصار حولك خشع/ فقلت أبوحفص ببرديك أم علي».
يؤكد الدكتور عثمان أمين، أستاذ الفلسفة فى كتابه «رائد الفكر المصرى الإمام محمد عبده»: أضفى على المنصب سناء ومهابة لا عهد للناس بهما من قبل، ولم يجعل المنصب مقصورا على الإفتاء فيما يحال إليه من مسائل، على غرار من سبقوه، بل وسع اختصاصه وزاد من نفوذه.. كانت مهمة المفتى قبل محمد عبده المصادقة على أحكام الإعدام التى تصدرها محاكم الجنايات، ولكن الإمام وسع من مجال هذا المنصب حتى شمل إصلاح المحاكم الشرعية وإصلاح الأزهر».
يضيف عثمان: «مما يسترعى النظر أنه كان يلقى حينئذ دروسا فى تفسير القرآن، وهى دروس انبعثت فى كل كلمة منها روح عصرية ودعوة إلى التحرير والتجديد الرشيد، وأشهر فتاوى الأستاذ الإمام ثلاث: الأولى، تبيح للمسلمين ادخار أموالهم وأخذ الفوائد والأرباح عليها، والثانية، تبيح لهم أن يأكلوا من ذبائح غير المسلمين، والثالثة، تبيح لهم أن يتزيوا بزى غير زيهم التقليدى، وللإمام فتوى أخرى غير مشهورة فى موضوع النزاع بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال، ومن العسير على الإنسان أن يتخيل اليوم كيف أن تلك البدع- كما كانوا يدعونها إذ ذاك- قد سببت كثيرا من المجادلات الحادة، وأثارت سخط الشيوخ المتزمتين، وجلبت على المفتى ضروبا من القدح والتشهير، ولم تكن الدوافع إليها دينية خالصة فى أكثر من الأحيان».
وفقا لسيرته الذاتية تحقيق «طاهر الطناحى»: «كان يقف من العدالة وحق الوطن ما اشتهر عنه فى عدة مواقف حتى أصبح العدو الأكبر للخديو عباس».. يؤكد الطناحى، أن بعض المنافقين للخديو، والموالين للعائلة الخديوية سنة 1902 دعوه إلى الاستعداد لإقامة ذكرى جده محمد على بمناسبة مرور مائة عام على حكمه «مايو 1905»، فوجد الأستاذ الإمام فى الاحتفال تقديسا للاستبداد، وكتب مقالا فى مجلة المنار عام 1902، هاجم فيه محمد على بشراسة.. قال: «أخذ يرفع الأسافل ويعليهم فى البلاد والقري،ولم يبق فى البلاد إلا آلات له يستعملها فى جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة».