ذو جسم نحيل تظهر عليه ملامح الهم والغم والشقى، يظهر داخل أحد قاعات محكمة جنوب القاهرة وهو يجر أذيال الخيبة وكأنه يحمل فوق رأسه جبالًا، يتمتم بين وبين نفسه (أنا برئ.. أنا معملتش حاجة)، ثم يجلس إلى جوار أحد الأشخاص متسائلاَ: "أنا عندى قضية يا أستاذ ومحتاج مساعدة حضرتك أنا عليا حكم وعايز أعمل معارضة».. بهذه الكلمات بدأ الشاب «أحمد.ع»، عامل، حديثه وهو يسرد مأساته.
وتابع أحمد، حديثه قائلا: «أنا يا أستاذ مظلوم أنا عليا عفاريت أنا عايز محامى يقول للقاضى أنى مش أنا اللى ضربت أنا مأمور منهم ولما بيحضروا عليا بنفذ أوامرهم، الله يسامحها مراتى هى اللى عامله فيا كده عشان فى بينا مشاكل راحت لواحد وعملتى عمل الله يسامحها أنا أغلب من الغلب يا أستاذ والله ولا ليا فى المشاكل».
هذه الواقعة الغريبة والفريدة من نوعها جعلتنا نتساءل.. ماذا لو ذهب محامى إلى القاضى وشرح له هذه الأسباب؟ وهل أن صحت رواية هذا الشخص يعفى المتهم من العقاب؟ وماذا عن القانون المصرى وتناوله لمثل هذه الوقائع الغريبة من نوعها؟ وفقا للخبير القانونى والمحامى أحمد عبد القادر.
فى الحقيقة أنه فى حالة سرد أى محامى وقائع للقاضى بمثل هذه التفاصيل فى دفاعه، لأمر القاضى بحبسه هو والمتهم لأنه سيعتقد أنه أستخف به نظرا لعدم معقولية الحديث وخلاصة الأمر أن تلك الأسباب لا تؤدى لأى حال من الأحوال إلى القضاء ببراءة المتهم وعليه التفاوض مع المجنى عليه وتوعيته بحالته الصحية والنفسية ومن ثم التصالح معه ثم بعد ذلك نقوم بالتقرير بالطعن على الحكم وتقديم هذا التصالح للمحكمة.
إلا أننا أمام إشكالية لها جانب فى غاية الأهمية فى القانون المصرى ألا وهى أسباب الإباحة فى قانون العقوبات أى الحالات التى يجيز القانون فيها إعفاء المتهم من العقاب على الرغم من ارتكابه الفعل الجنائى.
ما هى الإباحة فى القانون: أولا كلمة أباحة فى اللغة تعنى المباح وهو الإظهار ويقال باح الشيء أى أظهر الشيء، أما تعريف الإباحة فى القانون فهى إعفاء الجانى من العقاب عن الفعل الذى ارتكبه لقيامه بهذا الفعل تحت ظروف شخصية أو ظروف مادية دفعته إلى ذلك تمنع من مسألته حال إثباتها – وفقا لـ«عبد القادر».
حالات الإباحة أو الإعفاء من العقوبة:
نص القانون على حالات لعدم المسئولية الجانى عن فعلة الإجرامى كما نص المشرع على حالات أخرى أطلق عليها حالات الإباحة فى القانون وأخيرا المجموعة الأخيرة من الإعفاء والتى أطلق عليه المشرع موانع العقاب وحيث أن تلك الحالات قد عددها المشرع الأمر الذى معه سنتناول تلك الحالات تباعا.
نصوص القانون الوارد بها حالات الإعفاء من العقاب
نص المشرع على حالات الإعفاء عموما فى المواد من 60 وحتى 63 من قانون العقوبات
حالات الإباحة فى القانون:-
جاءت حالات الإباحة فى قانون العقوبات على سبيل الحصر ومن ثم فلا يجوز القياس عليها أو التوسع فيها وحالات الإباحة ثلاث وهى «استعمال حق خوله القانون أو الشريعة - قيام الموظف العام بالفعل تنفيذا لأمر من رئيسه المباشر - حالة الدفاع الشرعى عن النفس»، وما يهم القراء من هذه الحالات حالة الدفاع الشرعى وقيام الموظف بالفعل تنفيذا لأمر رئيسه المباشر.
-ما هى حالة الدفاع الشرعى؟
يمكنا تعريف حالة الدفاع الشرعى على أنها دفع اعتداء يقع على نفس أو مال الشخص بفعل يعد جريمة، ومن ثم لكى تقوم حالة الدفاع الشرعى فإنه يشترط أن يكون هناك خطر ما تعرض له الشخص فى نفسه أو ماله لذا فإن المكون الرئيسى لقيام حالة الدفاع الشرعى هو وجود خطر محدق على نفس ومال مرتكب الفعل الإجرامى حتى تباح فعلته.
مواد القانون التى تعالج حالة الدفاع الشرعى:
نص المشرع المصرى على حالة الدفاع الشرعى فى قانون العقوبات حيث تناول حالة الدفاع الشرعى فى المواد من 245 وحتى 251 فقد نصت المادة 245 على أن :- «لا عقوبة مطلقا على من قتل غيره أو أصابه بجراح أو ضربه أثناء استعماله حق الدفاع الشرعى عن نفسه أو ماله.
وقد بينت فى المواد الآتية الظروف التى ينشأ عنها هذا الحق والقيود التى يرتبط بها، وفى ذلك قضت محكمه النقض: «متى كانت الواقعة ناشئة عن حادث قهرى لا يد للمتهم فيه ولا فى قدرته منعه فلا مسئوليه عليه ولا على المسئول عن الحق المدنى، بل لا يهم أن يطلب من المحكمة تحقيق ما يزعمه من وقوع هذا الحادث القهرى وللمحكمة أن ترفض هذا الطلب متى رأت أنه غير جدى وأن العناصر الموجودة لديها فى التحقيق تدل على عدم الأحقية فيه».
كما نصت المادة 246 من قانون العقوبات على: «حق الدفاع عن النفس يبيح للشخص إلا فى الاحوال الاستثنائية المبينة بعد استعمال القوة اللازمة لدفع كل فعل يعتبر جريمة على النفس منصوصا عليها فى هذا القانون، وحق الدفاع الشرعى عن المال يبيح استعمال القوة لرد أى فعل يعتبر جريمة من الجرائم المنصوص عليها فى الأبواب الثانى والثامن والثالث عشر والرابع عشر من هذا الكتاب وفى الفقره 4 من الماده 279».
شروط حالة الدفاع الشرعى:
أولا - وقوع خطر على اعتداء على النفس أو المال بفعل يعد جريمة.
ثانيا- أن يكون الاعتداء من ضمن الجرائم الواردة على سبيل الحصر.
ثالثا- أن يكون الخطر محدق وأن تكون القوة هى الوسيلة الوحيدة لدفع هذا الخطر.
الشرط الأول:
وقوع خطر على اعتداء على النفس أو المال بفعل يعد جريمة :- اشترط المشرع المصرى لقيام حالة الدفاع الشرعى أن يكون هناك فعل يعد جريمة واقعة على الشخص حتى يستفيد من حالة الدفاع الشرعى لذلك إذا كان الفعل الموجه هو فى ذاته فعلا مباحا فلا يجوز رده والتحصن بحالة الدفاع الشرعى فى مقاومة فلا يصح مقاومة السلطات أثناء القاء القبض على أحاد الناس اعتماد على حالة الدفاع الشرعى نظرا لمشروعية فعل القبض لقيامة من ذوى الصفه فى ذلك.
ولا تقتصر حالة الدفاع الشرعى على وجود خطر أو جريمة واقعة على نفس أو مال الشخص ذاته وإنما من الممكن أن تنعقد حالة الدفاع الشرعى من أجل رد خطر على مال أو نفس الغير كأن يقوم شخص بمنع الجانى من إشعال الحريق فى أحد المحال.
-كما أنه لا يجوز انعقاد حالة الدفاع الشرعى على حالة دفاع شرعى كأن يقوم الجانى بمحاولة سرقة محتوايات أحدى الوحدات السكنية فتنعقد لصاحب الوحدة حالة الدفاع الشرعى هنا لا يجوز للمعتدى أن يقاوم ويتحصن بكونه فى حالة دفاع شرعى وفى ذلك قضت محكمة النقض :- «فإذا كان المتهم قد دخل منزل المجنى عليه بوجه غير قانونى بواسطة التسلق وكان ذلك فى منتصف الليل وكان يحمل سلاحا ناريا وبقى فى المنزل مختفيا عن أعين من لهم الحق فى إخراجه فلا شك فى أن صاحب المنزل يكون فى هذا الظرف فى موقف يبيح له حق الدفاع الشرعى عن نفسه وماله، فإذا أستعمل المجنى عليه حقه فى الدفاع عن نفسه بما له ضد اعتداء المتهم لم يجز لهذا الأخير أن يعتدى عليه بحجة أنه يدافع عن نفسه».
وترجع العلة فى ذلك لكون أن الباعث الذى دفع هذا الشخص هو باعث إجرامى هدفه الاضرار بمصلحة الآخرين، وبالتالى فليس له الحق فى الاستفادة من أى سبب من أسباب الإباحة، وبالتالى فمن الشرط الأول لقيام حالة الدفاع الشرعى هو أن يكون الفعل الواقع يعد جريمة يعاقب عليها القانون وأن تكون تلك الجريمة من الجرائم الواردة على سبيل الحصر والتى سنتناولها فى الشرط التالى.
وخلاصة القول ارتباط حالة الدفاع الشرعى وجودا وعدما مع الجريمة فان وجد فعل يعد جريمة تنبثق منه للمجنى عليه حالة الدفاع الشرعى بشرط ألا يتعدى الدفاع الخطر.
- الشرط الثانى :
أن يكون الاعتداء من ضمن الجرائم الواردة على سبيل الحصر : حدد قانون العقوبات جرائم جاءت على سبيل الحصر تنعقد معها حالة الدفاع الشرعى وتنقسم تلك الجرائم على نوعان جرائم تعدى على النفس، جرائم تعدى على المال :-
أ- الجرائم المتعلقة بالنفس
تندرج تلك الجرائم تحت أى أفعال من شأنها تعرض جسد المجنى عليه للضرر كالقتل والجرح والضرب، أو الاعتداء على العرض والشرف كجرائم الاغتصاب وهتك العرض، كما أن الاعتداء الواقع على حق الإنسان فى الحرية تندرج من ضمن الجرائم الماسة لنفس المجنى عليه والتى تكفل من خلالها حالة الدفاع الشرعى مثل حبس الأشخاص دون وجه حق وهذا ما نصت عليه الماده 246 من قانون العقوبات والمادة 249 التى أباحت أن تصل حالة الدفاع الشرعى لحد القتل، وذلك فى الجرائم التى تمس نفس المجنى عليه وحددتها على سبيل الحصر فى جرائم القتل أو الجرح البالغ درجه كبيره من الخطورة، وكذا جريمة الاغتصاب وهتك العرض، واختطاف الانسان.
التساؤل هنا عن من الذى يملك السلطة فى تقدير درجة جسامة الفعل المعتدى به وما إذا كانت حالة الدفاع الشرعى لم تتعده من عدمه؟
المعتدى به وفعل المجنى عليه وهو حالة الدفاع الشرعى ثم تقضى المحكمة بوجود حالة الدفاع الشرعى من عدمه وطالما أن محكمة الموضوع هى المحكمة المنوط لها أن تحدد ما إذا كان الفعل هو حالة دفاع شرعى من عدمه إذن فيجب أن يتم الدفع به أمام المحكمة التى تنظر الموضوع ولا يجوز أثارته أول مرة أمام محكمه النقض كون أن محكمة النقض ليست محكمة موضوع، وإنما هى محكمة قانون وعليه فإن الحق فى التمسك بحالة الدفاع الشرعى يسقط إذا لم يبد أمام محكمة الموضوع ويصبح غير مقبولا إذا تمسكا به أمام محكمة النقض.
وفى هذا قضت محكمة النقض: «تقدير الظروف التى تبيح استعمال حق الدفاع الشرعى عن النفس أمر متعلق بالوقائع تفصل فيه محكمة الموضوع نهائيا وليس لمحكمه النقض والإبرام أن تعيد البحث فيه».
ب- الجرائم المتعلقة بالمال:
نص المشرع على أن الجرائم التى تقع على المال هى أيضا تقوم معها حالة الدفاع الشرعى وقد نص على ذلك فى المادة 246 من قانون العقوبات وحدد تلك الجرائم على سبيل الحصر كالآتى «الجرائم المنصوص عليها فى الأبواب الثانى والثامن والثالث عشر والرابع عشر من هذا الكتاب وفى الفقره 4 من الماده 379»، وبالتالى يمكننا بيان أنواع الجرائم التى تمس المال والتى تنعقد معها حالة الدفاع الشرعى فهى كالآتى:
1 - جرائم الحريق العمد «الجرائم المنصوص عليها فى الباب الثاني».
2 - جرائم السرقة والاستيلاء على الأموال «الجرائم المنصوص عليها فى الباب الثامن» .
3 - جرائم التخريب والتعيب والإتلاف «المنصوص عليها فى الباب الثالث عشر».
4 - جرائم انتهاك حرمة الغير «المنصوص عليها فى الباب الرابع عشر».
-نص الفقرة الرابعة من الماده 379 والتى تنص على: «من دخل فى أرض مهيأة للزرع أو مبذور فيها زرع أو محصول أو مر فيها بمفرده أو ببهائمه أو دوابه المعدة للجر أو الحمل أو الركوب أو ترك هذه البهائم أو الدواب تمر أو ترعى فيها بغير حق»، الأمر الذى معه نرى أن المشرع قد حدد على سبيل الحصر الجرائم التى تقع على النفس والجرائم التى تقع على المال التى تقوم فيها حالة الدفاع الشرعى، كما نص المشرع فى الماده 250 من قانون العقوبات بأن حالة الدفاع الشرعى يمكن أن تصل إلى حالة القتل.
- الشرط الثالث:
أن يكون الخطر محدق وأن تكون القوة هى الوسيلة الوحيدة لدفع هذا الخطر:- يشترط لقيام حالة الدفاع الشرعى أن يكون هناك خطأ محدق وحالا الأداء الأمر الذى معه يتبين بان الجرائم المستقبلية أو الاعتداء المستقبلى لا تنعقد معه حالة الدفاع الشرعى فلا يجوز لشخص أن يتمسك بحالة الدفاع الشرعى عند قيامه بالتعدى على شخص أخر لأنه كان يحمل عصا فى يديه ففعل التعدى لم يكن متوفر فى الشخص المعتدى عليه كما أن سلوكه الخارجى لم ينم عن ارتكابه لسلوك أجرامى وبالتالى يصبح فعل التعدى هنا غير مشروع ولا يستفيد من الإباحة فى هذه الحاله وإنما يحق على هنا العقاب.
-كما أشترط المشرع لقيام حالة الدفاع الشرعى أن تكون القوة هى الوسيلة الوحيدة لدفع الخطر وإلا يستطيع الشخص الرجوع للرجال السلطة «رجال البوليس» لرد الاعتداء فلو تمكن الشخص من دفع الاعتداء عليه عن طريق الاتصال بالشرطة فرضا إلا أنه قام برد هذا الاعتداء بنفسه مما نتج عنه إصابة الفاعل هنا ينتفى قيام حالة الدفاع الشرعى لان تجاوز المجنى عليه ما نص عليه القانون حيث أن الأصل العام أن رخصه الدفاع عن الأشخاص وحفظ النظام هو مخول لجهات معينة أم الاستثناء فهو إباحة رد الخطر بواسطة الأشخاص.
-القيود الواردة على تطبيق حالة الدفاع الشرعى: لم تترك حالة الدفاع الشرعى دون قيد يرد عليها وينظمها فقد حفظ المشرع حالة الدفاع الشرعى ببعض الضمانات التى شأنها أن تقيد حالة الدفاع الشرعى وتوقف استخدامها لكل من يحول التهرب من المسئولية اعتماد على حالة الدفاع الشرعى فقد نص قانون العقوبات بان لا يجوز الاعتداء على رجال السلطة العامة من منطلق حالة الدفاع الشرعى، وكذا قيد المشرع درجه القتل فى حالة الدفاع الشرعى فى بعض الجرائم بذاتها الأمر الذى معه يمكننا أن نلخص تلك القيود على أنها :- «عدم مقاومة رجال السلطة العامة».