لم يشهد الوضع فى القارة الآسيوية اختلافا نسبيا عن منطقة الشرق الأوسط، حيث تبنى الرئيس الأمريكى نهجا جديدا تجاه أحد أبرز الخصوم التاريخيين فى الولايات المتحدة، وهى كوريا الشمالية، حيث اتجهت إدارة ترامب إلى التقارب مع الدولة التى طالما نظرت إليها واشنطن وحلفائها الأوربيين باعتبارها أحد القوى المارقة فى العالم، فى الوقت الذى تتأرجح فيه العلاقة مع أقرب الحلفاء لها فى القارة الصفراء، وهما كوريا الجنوبية واليابان.
إلا أن التقارب التاريخى بين واشنطن وبيونج يانج لم يكن مجانا، فعقيدة الرئيس الأمريكى، كرجل أعمال، دائما ما تقوم على الصفقات، حيث خاض، بمجرد وصوله إلى البيت الأبيض، حربا كلامية، مع نظيره الكورى الشمالى، عبر التهديدات المتبادلة، سواء عبر موقع التواصل الاجتماعى تويتر، أو من خلال التصريحات الرسمية من الجانبين، وهو الأمر الذى أثار فى حينه مخاوف كبيرة بين قطاع كبير من المتابعين للشأن الدولى، من احتمالات نشوب حرب نووية.
ولكن سرعان ما هدأت المخاوف بعد ذلك، فى إطار اندماج زعيم كوريا الشمالية فى مباحثات مع مسؤولى كوريا الجنوبية، انتهت بالقمة الشهيرة التى جمعته مع رئيسها مون جاى إن، بالإضافة إلى الإجراءات الأخرى التى هدفت إلى طمأنة الولايات المتحدة، وعلى رأسها إغلاق أكبر موقع لتجاربها النووية فى مايو 2018، لتمهد الطريق أمام المفاوضات مع الولايات المتحدة، والقمة الأمريكية الكورية الشمالية الأولى بين ترامب وكيم، التى عقدت فى سنغافورة فى شهر يونيو من نفس العام.
إلا أن الرضوخ النووى لكوريا الشمالية لم يكن كافيا، حيث قدمت بيونج يانج ثمنا آخر، لإرضاء طموحات ترامب الداخلية، وهو الإفراج عن ثلاثة مسجونين أمريكيين قبعوا فى سجونها لسنوات.
ولعل التقارب الأمريكى الكورى الشمالى كان يمثل قلقا كبيرا لحلفاء واشنطن الآسيويين، فى ظل تنازلات من المحتمل أن تقدمها إدارة ترامب للخصم التاريخى، وأبرزها مسألة الانسحاب العسكرى من شبه الجزيرة الكورية، وكذلك من اليابان، خاصة أن تلك الدول تعتمد بصورة كبيرة على الحماية الأمريكية لها، بالإضافة إلى تجاهل ترامب، خلال قمته مع كيم المطالب اليابانية التى دارت حول المواطنين الذين اختطفتهم سلطات بيونج يانج قبل عقود.
وهنا يمكننا القول إن مخاوف حلفاء أمريكا فى آسيا تكمن فى اتخاذ إدارة ترامب نفس النهج الذى تبناه مع حلفائه فى أوروبا عبر نزع الحماية الأمنية منهم، بعدما حرمهم فعليا من المزايا الاقتصادية التى كانوا يتمتعون بها، من خلال فرض تعريفات جمركية على الصادرات القادمة منهم، وهو ما يعد بمثابة صفعة كبيرة لهم على الجانب الاقتصادى.
ولكن بالرغم من الطفرة الكبيرة فى العلاقات الأمريكية الكورية الشمالية، إذا ما قورنت بعقود العداء الماضية، فإن إدارة ترامب مازالت تمارس سياسة الضغط المتواصل على خصمها التاريخى، وهو ما يبدو واضحا فى الرفض الأمريكى القاطع لتقديم أية تنازلات فيما يتعلق بمسألة العقوبات، رغم الخطوات الإيجابية التى اتخذتها بيونج يانج، وهو الأمر الذى ساهم فى إفساد القمة الثانية التى جمعت ترامب مع كيم، فى العاصمة الفيتنامية هانوى، ساعدت كذلك على عودة واشنطن ولو جزئيا إلى التقارب بشكل أكبر من حلفائها.
لو نظرنا إلى تصريحات الرئيس الأمريكى قبل أيام من القمة الثانية، نجد أنه أكد فى تغريدة على حسابه بموقع التواصل الاجتماعى تويتر إنه ليس متعجلا فى أمره فيما يتعلق بنزع السلاح النووى، مؤكدا فى الوقت نفسه أن هناك فرصا عظيمة فى انتظار كوريا الشمالية، لتحقيق طفرة اقتصادية على غرار ما شهدته فيتنام، وهى الدولة التى استضافت تلك القمة.
يبدو أن الرئيس الأمريكى يسعى نحو ضرب التحالف الصينى الكورى الشمالى تمهيدا لتوجيه بوصلة بيونج يانج للتحليق فى فلك واشنطن، وهو ما يمثل الأولوية القصوى للإدارة الأمريكية فى إدارتها للملف على حساب القضية النووية نفسها، خاصة أن الصين أظهرت قدرتها على إفساد الجهود الأمريكية لاحتواء خطر بيونج يانج عدة مرات، مع تنامى التوتر مع الولايات المتحدة، عبر الخلافات التجارية.
وهنا يبدو واضحا أن ثمة تغييرا كبيرا شهدته طبيعة العلاقات الأمريكية فى آسيا خلال العامين الماضيين، للرئيس ترامب فى البيت الأبيض، وهو ما يعكس رغبته فى إعادة هيكلة تحالفات بلاده فى الفترة الحالية، بالإضافة إلى إعادة صياغة العلاقات مع الخصوم، ليدور الجميع خلف الإدارة الأمريكية.