أصيب محمد على باشا بالمرض، فانشغل ابنه إبراهيم باشا بأن تؤول السلطة له رسميا فى حياة الأب دون شعوره بأن ذلك اغتصابا، حسبما يذكر «نوبار باشا»، وزير ومستشار الأب والابن فى مذكراته.
يؤكد»نوبار» أن محمد على، أصيب بالدوسنتاريا الحادة عام 1848، فسافرإلى جزيرة مالطا للمثول فى الحجر الصحى، وعالجه الأطباء بمحلول نترات الفضة التى نجحت فى وقف المرض، لكنها نالت من قدراته العقلية، يضيف: “لم يكن من الممكن أن أقول: إن محمد على فقد عقله تماما، لأنه فى لحظات ما كان يدرك تماما الحالة التى هو عليها، ويراقب نفسه، فما أن يشعر بأنه سيدخل فى نوبة هذيان أو فقدان العقل إلا ويختلى بنفسه فى عزلة تامة محاولا بكل قوة أن يستعيد تسلسل أفكاره، سواء كان يستطيع هذا أم لا، إلا أن هيئته ومظهره لم يتغيرا.. كان على ما هو عليه منذ أن عرفته محتفظا بهيبته وبهذه القدرة الفائقة على أن يظل أنيقا ونظيفا إلى حد التبلور داخل هذه الأناقة والنظافة، كانت عيناه دائما متيقظتين ونشطتين، دائما يجلس وركبتاه نصف مثنيتين، ودائما خنجره فى متناول يده.. كل التناقض بين هذا وبين حال ابنه إبراهيم الواقف أمامه محنى الرأس، يداه مضمومتان إلى صدره دليل الطاعة والاحترام، يرتدى معطفا قبيحا فى انتظار أمر أوكلمة من والده وهو ينظر إليه خلسة متسائلا، إن كان مرض والده هذا حقيقيا أم مصطنعا».
يؤكد نوبار، أنه منذ إبريل 1848 «لم يكن فى استطاعتنا إعلان جنون محمد على، ولا الاعتراف بسلامة قواه العقلية، لذلك قررنا عدم تغيير أى شىء فى سير الأمور من الناحية الشكلية، ولجأ النظار ورؤساء الإدارات فقط إلى إبراهيم لتلقى الأوامر، أوعرض مقترحاتهم عليه، وطرحت فكرة تكوين مجلس وصاية برئاسة إبراهيم إلا أن الأخير رفض الأمر..أراد أن تكون له السلطة الفعلية وليس الوصاية، ومن ناحية أخرى يخشى من فكرة شفاء والده الذى سيجعله يدفع حياته ثمنا لكل عمل فعله لتدعيم سلطته رسميا، لأن محمد على كان سيعتبره اغتصابا للسلطة.. فكر إبراهيم بحكمة فوجد أن تكوين مجلس وصاية يستلزم تأييد وموافقة الباب العالى كى يصبح شرعيا، ويعترف به ممثلو القوى العظمى فى مصر، كما كان يمكنه أيضا استغلال الموقف، وتقلد السلطة دون النظر إلى مجلس وصاية أو غيره، لكن هذا كان يستلزم أيضا تأييد وموافقة الباب العالى».
انشغل إبراهيم بما إذا كان الباب العالى سيعطيه ما يريد أم لا، ووفقا لنوبار: «لم يكن أمامه إذن أى مجال سوى الذهاب إلى القسطنطينية لطلب الولاية، لكن كيف يذهب؟.. كان يجب العثور على حجة للسفر».. يؤكد نوبار، أنه فى أثناء انشغال إبراهيم بأمر سفره خرج يوما من قصر محرم بك، حيث يقيم عند شقيقته نازلى، ووضع أمامى منديله الملوث بالدماء، ولم يكن يريد استدعاء الأطباء، ولكننى بطريقة أو بأخرى أرغمته على استدعاء كلوت بك، ووجد الأخير أن الحالة عضال، وصرح لى بصفة شخصية وسرية بأنه يعتقد بأنها إصابة قوية فى الرئة، وظل هذا الأمر سرا، وتوقف النزيف بفضل الدواء الفعال الذى وصفه «كلوت بك».
كان «كلوت بك» طبيبا فرنسيا جاء إلى مصر عام 1825 ليعمل فى وظيفة «جراح باشى»، وصار جراح محمد على، واستعان به لتنظيم الخدمة الصحية فأسس مدرسة للطب فى أبى زعبل عام 1827، ونقلت إلى مكانها الحالى بقصر العينى فى أوائل 1837، حسبما يذكر الدكتور زكريا الشلق فى مقدمته لكتاب «لمحة عامة إلى مصر»، تأليف: «كلوت بك» ترجمة وتحرير - محمد مسعود.
يتذكر نوبار، أن الكوليرا انتشرت بشكل مفاجئ فى الإسكندرية، فوجدها إبراهيم حجة مثلى للسفر، فأمر بتجهيز السفينة الحربية الوحيدة الباقية من الأسطول البحرى، ولكى يصدق الجميع أن تفشى الوباء هو سبب سفره، أرسل ابنيه مصطفى وأخاه الصغير محمد على، على ظهر يخت شراعى، وأمر قائده بالتوقف فى عرض البحر بين جزيرة رودس والإسكندرية، وصل إبراهيم إلى القسطنطينية، وتوافد الوزراء وكبار رجال الدولة والنبلاء للترحيب به.. يتذكر نوبار: «كان قلقا بسبب أخبار عن تردد الباب العالى فى منحه الولاية فى حياة أبيه، حيث طرحت عليه منصب الحاكم العام فى مصر دون ولاية، فرفض، وأصبح الموقف غامضا حتى جاء عراف القصر ليخرج الجميع من هذا المأزق وهذه الحيرة، أعلن أنه بعد استشارة الكواكب كان الرد أن إبراهيم سيموت قبل مرور ستة أشهر، وكانت هذه النبوءة تتفق مع ما أعلنه أيضا طبيب القصر النمساوى المكلف برعايته، فبعد أن فحصه تبين له أن إبراهيم يتقيأ الدم من فمه نتيجة إصابة خطيرة فى الرئة، ومن ثم تقرر منحه الولاية يوم 13 يونيو «مثل هذا اليوم» عام 1848، ووفقا لنوبار باشا: فى صباح اليوم التالى تركنا القسطنطينية.
كانت رحلة عودته مثيرة، فماذا حدث فيها؟