بدأ إبراهيم رحلة العودة من القسطنطينية إلى مصر يوم 14 يونيو، مثل هذا اليوم 1948، بعد حسبما يذكر «نوبار باشا» فى مذكراته، وذلك بعد أن منحه الباب العالى فرمان الولاية على مصر فى حياة والده.. راجع - ذات يوم 13 يونيو 2019».
كان نوبار وزيرا ومستشارا لمحمد على وابنه إبراهيم، ورافق إبراهيم فى رحلته إلى القسطنطينة للحصول على فرمان الولاية.. يقول: «تركنا القسطنطينية صباح اليوم التالى بعد حضور الوزراء وكبار رجال الدولة لوداع إبراهيم الذى ودعهم قائلا: «أترون هذه الأعمدة؟، لقد أصبحت أطلالا بينما أنا وأبى زرعنا فى مصر عشرة ملايين شجرة.. أنتم على العكس خربتم ما حباه الله لكم».
تسلل المرض إلى جسد إبراهيم قبل سفره، وحسب نوبار باشا، فإن المرض كان له تأثيره القوى على تصرفاته أثناء رحلة السفر ذهابا وإيابا وأثناء الزيارة، ويكشف عما شهدت رحلة العودة من دراما مثيرة، يتذكرها قائلا: «كنت على دراية تامة بحالته العقلية، كان خائفا على حياته ويعانى من خشونة الصوت نتيجة التهاب حباله الصوتية من جراء القىء المستمر، كان هناك خطر آخر يلوح فى الأفق وهو أكبر من الأول يطارده منذ طفولته ألا وهو خوفه إلى حد العرب من والده، لأنه إذا وصلنا إلى الإسكندرية، ووجدنا محمد على شفى تماما من مرضه، فإن ذلك سيعنى بالفعل أن إبراهيم سيلقى مصيرا مظلما ولن ينجيه لاقبطان بك ولا كل مماليكه..لم يكن إبراهيم يهذى فى هذا الشأن، ولا فى إحساسه بالخوف والكراهية تجاه والده.. كان يعرف تماما أن شفاء محمد على فيه ضياعه الأكيد، فلا وزن عنده لأى ولاية أو فرمان، لكن على النقيض إذ وجد أباه على نفس الحالة التى تركه عليها قبل السفر غير قادر على القيام بأعباء الحكم والقبض على السلطات التى كان يمارسها»..يعلق نوبار: «سواء كانت هذه المخاوف مبالغا فيها أم لا، لها أساس أم لا، كنت أحس أنها موجودة فى رأس إبراهيم وكانت دائمة الحضور أمام مخيلته المتعبة والمنهكة بسبب كل هذه الأحداث، حاضرة ليس كأحلام ولكن كحقائق».
يتذكر نوبار: «تم إخطارى بأن إبراهيم انتابته نوبة أخرى من حالات الاضطراب النفسى، وصلنا إلى مرتفعات رودس، وكانت الرياح مستمرة فى الهبوب فى اتجاه أشرعتنا، ولكنها كانت تميل للبرودة، وكل ساعة كانت تمر لحسن الحظ كانت تقربنا من الإسكندرية، وفى حوالى الساعة الواحدة من بعد ظهر ذلك اليوم كنا أنا وحسن باشا وبيدان بك، نتبادل الحديث على ممرات الدور الأول عندما رأينا شرين بك قائد السفينة قادما إلينا وهو رجل شجاع كنا نحبه جميعا، قال لنا فى نبرة هادئة وساكنة: «لقد كلفنى السر عسكر «إبراهيم»، أن أقول لكم: إنكم أنتم الثلاثة خونة، وإنك يا حسن باشا خنته مع عباس، وأنت متجه بنظره لبيدان بك خنته مع أترين بك شاركيان، وأنت «مستدير نحوى» خنته مع والده، لكن وقبل أن تصلوا إلى الإسكندرية، ولكى يسلم من أى خيانة أخرى من جانبكم سيأمر بقطع رؤوسكم ويضعها بين أرجلكم ويلقى بكم فى البحر».
يضيف نوبار: «كنت أنظر إلى حسن باشا، فرأيت خديه قد انكمشا، ووجهه أصابه الشحوب المفاجئ، ثم نظرت إلى بيدان بك فكان وجهه أبيض كالكفن، قال حسن باشا فى صوت مرتعش لشرين بك: لكنك لن تنفذ مثل هذا الأمر إذا أعطاه لك، فرد شرين: حسنا إن عدم تنفيذى للأمر لن يقدم أو يؤخر شيئا كثيرا من أمركم، لأن مساعدى سيلقى بى فى الماء وبذلك أكون أنا الرابع»، قال ذلك وسار بعيدا مثلما جاء محتفظا بكل سمات الهدوء الذى فى العالم، يذكر نوبار عن كيف تصرف فى هذا الأمر،وذلك بصعوده إلى سطح السفينة وقيامه بالترويح عن إبراهيم وإبعاد هذا النوع من التفكير عنه، وفعل ذلك طوال مسافة الرحلة حتى الوصول إلى الإسكندرية، يقول: «كنت دائما أجد السبيل للترويح عنه ولأتحدث معه عن أمر والده، فكنت أذكره دائما بأن الشفاء من أمراض المخ أمر مستحيل، ولاسيما فى سن والده، وكنت أبقى إلى جوار سريره حتى ساعات متأخرة من الليل تارة لمساعدته على الجلوس فى سريره وتارة أخرى نتحدث، وتارة ثالثة نتشاور فى الطقس والرياح وحساب المسافة التى تم قطعها والمسافات الباقية للوصول إلى الإسكندرية، وكان عندما يسمعنى أتحدث عن المستقبل بهذه الثقة المطلقة يحس بالاطمئنان، وكانت أفكاره السوداء تتلاشى تدريجيا».
وصل إبراهيم إلى مصر، ومات يوم 10 نوفمبر 1948، أى قبل تمام ستة شهور من حصوله على الفرمان.