دعا فتحى الديب، الشاعر صالح جودت مراقب البرامج الثقافية فى الإذاعة، والمذيع أحمد سعيد، للذهاب معه إلى مبنى مجلس الثورة بالجزيرة للقاء بعض أعضائه.. يؤكد «سعيد» فى مذكراته «غير منشورة وبحوزتى مخطوطة منها»، أن اللقاء تم بعد ظهر 15 يونيو، مثل هذا اليوم، 1953، وناقش خطوات إطلاق «برنامج صوت العرب».
كان «الديب» مكلفا من عبدالناصر بتنفيذ البرنامج، واختار «الديب» له كلا من «جودت» و«سعيد»، ثم استغنى عن «جودت» بعد بدايته، وأصبح «سعيد» هو رئيس البرنامج ونجمه، حتى تحول إلى إذاعة «صوت العرب»، التى أصبحت أهم وأقوى أذرعة عبدالناصر الإعلامية.
يكشف «سعيد» فى مذكراته خطوات الاستعداد، وشملت التزود المعرفى بلقاءات مع مفكرين وعلماء وشيوخ وكتاب وأساتذة جامعات، ودراسات فى اللغة العربية والتاريخ وعلم النفس والاجتماع والجغرافيا وغيرها..وعن لقاء 15 يونيو 1953 يذكر أنه بدأ مع زكريا محيى الدين، ثم دخل عبدالناصر عليهم بعد عشرين دقيقة، وتحدث قائلا: «أنا متابع نشاطكم فى الإعداد للبرنامج، ومقدر تماما جهودكم فى جمع المعلومات، وعارف إن العملية معقدة تمام زى الإعداد لحملة عسكرية، خاصة إن عملكم مع عقول ونفوس وظروف ناس مختلفة المصالح والمدارك كمان.. وده اللى مخلينى أصبر عشان البرنامج يبتدى قوى وناجح من أول يوم..وكان موقف عظيم يا أستاذ صالح، وأنت شاعر كبير لك فى اللغة كتير إنك تشجع أحمد سعيد على سؤال الشيخ أحمد حسن الباقورى «وزير الأوقاف»، والشيخ محمود شلتوت «شيخ الأزهرعام 1958»، والأبحاث اللى طلبتوها من الجامعة العربية وبعض الأساتذة والكتاب.. كل ده طمنى بس الأحداث ضاغطة علينا، وإحنا كمان بنضغط عليها خصوصا بعد توقيع اتفاقية السودان فى 12 فبراير، وتركيزنا بعدها على الجلاء عن مصر، وده هدف من أهم أهداف الثورة، لكن الجماعة فى لندن «الحكومة البريطانية» لهم رأى تانى، والأمريكان معاهم علشان البترول وإسرائيل ولو أنهم بيدعوا الحياد فى الظاهر، المهم إحنا داخلين على أيام نحتاج فيها للبرنامج بتاعكم.. فيه مذكرة لتشرشل «رئيس وزراء بريطانيا» وقع نصها فى إيدينا متطمنش، وفيه احتمال تصعيد مواقف فى منطقة القناة زى سنة 1951 اللى عشتها يا أحمد.. أظن واجبكم إنكم تبتدوا فى أقرب فرصة ممكنة.. أنا عايز البرنامج ده أحد أسلحة الثورة فى تحقيق استقلال مصر والعرب.. أنتم إيه اللى مأخركم».
رد الديب: «استكمال معلومات يا ريس».. رد عبدالناصر: «وليه الاستكمال ما يتمش مع بدء العمل؟.. ثم يا فتحى الاستكمال ده عملية مستمرة عمرها ما تقف يوم، وإلا اتجمد العمل.. وبعدين أنا عايز أسمع بتوع الإذاعة.. أنت كان الله فى عونك».. رد جودت: «الحقيقة إحنا شبه جاهزين.. بس قلنا لو نجهز أكثر يكون أفضل.. وفى ذهننا إن بدء الإرسال يكون يوم 23 يوليو بمناسبة سنة على الثورة».. يتذكر «سعيد»: وجه عبدالناصر نظرة تأمل، ثم اندفع فى عتاب وحسم: «يا أستاذ صالح الثوة داخلة على مفاوضات وصراعات.. تفتكر من المصلحة تأخير استعمال سلاح الكلمة اللى اشتكى منها تشرشل وأعوانه وهى شويه تصريحات ومقالات.. علشان أحتفل ببدء برنامج إذاعة بعد أكتر من شهرين فى مناسبة مرور سنة على الثورة.. أنا م اوافقت عليه عشان احتفال.. لأ.. أنا وافقت عشان اشتغل به، وحارب كمان النهاردة قبل بكرة».
رفع «سعيد» يده طالبا الكلام وقال: «فيه استحالة نبتدى قبل 15 أو 18 يوليو، حسب وجهة نظر الهندسة الإذاعية».. يسأل عبدالناصر: «وإيه مشكلة الهندسة الإذاعية؟».. يرد جودت: «محطات الإرسال كلها مشغولة».. يضيف سعيد: «بالإضافة إلى أن الموجات المخصصة دوليا لمصر على قد البرامج الشغالة حاليا».. يسأل عبدالناصر: يعنى مفيش مجال تبتدوا على طول».. يجيب جودت: «هندسيا مفيش خالص»..يطلب «سعيد» من «جودت» طرح اقتراح المهندس عز الدين فؤاد بالحل..يطلب عبدالناصر من «سعيد» أن يذكره هو، فيتحدث: «المهندس عز اقترح إما إلغاء البرنامج الثانى، وده بيتذاع على موجتين متوسطة تتسمع فى المشرق، وقصيرة تتسمع فى المغرب».. يسأل عبدالناصر: «البرنامج الثانى بتاع المثقفين؟» ثم يجيب: «لا.. لا.. لا إلغاء لبرنامج ثقافى رفيع زى ده»..يستكمل سعيد باقى الاقتراح: «ننقله إلى محطة متوسطة فقط محدودة الاستماع بالقاهرة واللى حواليها دون موجة قصيرة ولحين ميسرة».. يعلق عبد الناصر: «ده حل ممتاز مؤقت، والقاهرة عامة مركز المثقفين.. بس بشرط تجيينى بكرة ومش بعده مذكرة بطلب فتح اعتماد لشراء محطات إرسال قوية عشان برنامج صوت العرب وبرنامج المثقفين كمان».
يتجه عبدالناصر بحديثه إلى زكريا والديب: «عايز دراسة تفصيلية عن أوضاع الإذاعة ومحطاتها، وتصور المهندسين فيها عن تطويرها..بناء الإذاعة فى رأيى من أهم أسلحة المستقبل».. ينظر إلى جودت وسعيد قائلا: «أظن مقدرين كويس رأيى فى شغلكم، وإن الإذاعة حتبقى من أهم أسلحة المستقبل».. يرد جودت: «الكلمة لها فعل السحر».. يقول سعيد: «كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين»..يبتسم عبد الناصر: «وقبل القرآن يا أحمد نزل فى الإنجيل «فى البدء كانت الكلمة، بمعنى الإرادة والمشيئة والمعجزة».
يؤكد سعيد: «ينصرف عبدالناصر، ونبقى ربع ساعة أخرى مع زكريا محيى الدين، ونتفق على 4 يوليو 1953 لبدء صوت العرب، ويومه وفى السادسة مساء يتردد فى الأثير مدويا».