تمر غدا – الأحد- الذكرى الـ21 لوفاه الداعية المعروف الشيخ محمد متولى الشعراوى- توفى فى 17 يونيو 1998- ومع ذلك ورغم سنوات الغياب بالوفاه للشيخ الا أن حملات هجوم غريبة ظهرت بشكل مفاجئ على مواقع التواصل الاجتماعى وخاصة الفيس بوك بعد اعادة تداول فيديوهات قديمة للشيخ يبدى فيها رأيه فى بعض الأحداث السياسية فى مصر أو رأيه وموقفه الدينى فى بعض الأمور.وهى مواقف مر عليها سنوات طويلة واختلفت فيها الظروف التى نبتت فيها والأسباب التى أدت اليها.
فلماذا الهجوم على الشيخ الشعراوي الآن ولماذا يتم اعادة تداول فيديوهات قديمة لمواقف آثارت الجدل وقتها وشهدت شدا وجذبا بين الشعراوى والناصريين تيارات فكرية مختلفة... وما الهدف من نشر هذه الفيديوهات الآن ..هل هى محاولة لهدم الشعراوى كرمز دينى له اسهاماته الفكرية فى علوم التفسير للقرآن..هل هى بداية لمحاولات هدم رموز الأمة فى مجالات آخرى وبالتالى لا يكون هناك رمزا أو قدوة للجيل الحالى والأجيال المقبلة..؟
النبش فى الماضى وتفاصيله لم يعد مجديا وخاصة مع رجل دين بقامة وقيمة الشيخ الشعراوي، فالشيطان يسكن فى التفاصيل ..ومجرد ذكرها يقع الجميع فى آتون الفتنة والصراع من جديد. وقصته مع عبد الناصر و هجوم الناصريين عليه انتهت باعتذار ذكى للغاية من الشيخ قبل وفاته بحوالى 3 أعوام وبعد مرور ربع قرن على وفاه الزعيم جمال عبد الناصر فقد زار الشعراوي ضريح الزعيم الراحل فى أواخر شهر أكتوبر 95 ودعا له، ، وكشف عن سر الزيارة قائلا:" أن سر زيارته هذه كانت بسبب رؤيا منامية قال عنها: «لقد أتاني عبد الناصر في المنام ومعه صبي صغير وفتاة صغيرة والصبي ممسكاً بمسطرة هندسية كبيرة والبنت تمسك سماعة طبيب ويقول لي ألم يكن لدي حق أيها الشيخ، فقلت له بلي يا عبدالناصر أصبت أنت وأخطأت أنا».
وكان هذا رداً على سوء تفاهم حدث بسبب إدخال الزعيم عبد الناصر الطب والهندسة في علوم جامعة الأزهر وهو ما اعترض عليه الشيخ الشعراوي بشدة حيث كان يري أن الأزهر للعلوم الدينية فقط وكان يري عبد الناصر أن الأزهر يجب أن يكون فيه الطبيب المسلم والمهندس المسلم بجانب العلوم الدينية.. وبدا الأمر على أنه اعتراف بفضل عبد الناصر واعتذار فى الوقت ذاته..ودخل الجانبان فى هدنة وسلم الى ان توفى الشعراوى وأغلقت الملفات وطويت الصحف.
ولكن عادت حملات الهجوم مرة آخرى وعاد السؤال من جديد:
هل كان الشعراوى يكره عبد الناصر ..؟
ربما لم يكن الشيخ محبا للزعيم رغم الرثاء العظيم له بعد وفاته وزيارته لقبره ورؤياه فى المنام
والبداية كانت مع اعلان قانون تطوير الأزهر الشريفالذى صدر عام 1960 فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر وآثار ضجة كبيرة وحملة مناضة ضده و تأثر الشيخ الشعراوي بالحملة حتى انتقد قانون تطوير الأزهر ووصفه بأنه "خرب الأزهر".
كان رأي عبد الناصر أن العصر وتطوره يتطلب أن يتخرج الطبيب والمهندس والعالم المسلم، ولا تقتصر الدراسة على العلوم الشرعية فقط.. خصوصا وأن اعتماد دول عديدة على خريجي الأزهر في الدعوة بعد تحرر دول عديدة يتطلب أن يجدد الأزهر مناهجه ويتحصن بالعلم..الا أن مشايخ الجمود والتمسك بأصول الدين والسلفية الذين واجهوا الشيخ محمد مصطفى المراغى شيخ الأزهر من قبل فى نهاية العشرينات وحتى منتصف الثلاثينات، هم أنفسهم الذين هاجموا قانون عبد الناصر
ثم تطور الهجوم من الشعراوى على ناصر عقب توليه منصب وزير الأوقاف عام 1976 واتهمه بنشر الإلحاد. وكرر ذلك في أحاديث تليفزيونية وصحفية ما لا يقل عن عشر مرات، وكانت المفاجآه الصادمة عندما أعلن الشيخ قصة سحدة الشكر على هزيمة 5 يونيو 67 وتفسيره ذلك بأنه كان فرحًا بالهزيمة آنذاك لأنه كان لا يريد أن تنتصر مصر وهي في أحضان الشيوعية، وأنه كان فرحًا بالنصر في حرب أكتوبر 1973 لأن مصر كانت في أحضان الإسلام..!!
ربما كان ذلك مجاملة للرئيس الراحل أنور السادات، على الرغم من أن الشيخ الشعراوى نال حظه من الترقى والمناصب فى عهد عبد الناصر ولم يصبه أى ضرر، فقد عين وكيلا لمعهد طنطا الأزهري عام 1960، ثم مديرا للدعوة الإسلامية بوزارة الأوقاف 1961.ومفتشاً للعلوم العربية بالأزهر الشريف 1962.ومديرا لمكتب الأمام الأكبر شيخ الأزهر حسن مأمون 1964. ورئيساً لبعثة الأزهر في الجزائر 1966
وقبل وفاه عبد الناصر عين أستاذا زائرا بجامعة الملك عبد العزيز بكلية الشريعة بمكة المكرمة 1970.
المفارقة أن الشيخ الشعراوى عندما علم بوفاه عبد الناصر رثاه بمقال مطول أدمع العيون وهز المشاعر قال فيه:"
بسم الله الرحمن الرحيم
قد مات جمال وليس بعجيب أن يموت ، فالناس كلهم يموتون ، ولكن العجيب وهو ميت أن يعيش معنا ، وقليل من الأحياء يعيشون ، وخير الموت ألا يغيب المفقود ، وشر الحياة الموت فى مقبرة الوجود ، وليس بالأربعين ينتهى الحداد على الثائر المثير ، والملهم الملهم ، والقائد الحتم ، والزعيم بلا زعم ، ولو على قدره يك
ون الحداد لتخطى الميعاد الى نهاية الآباد ، ولكن العجيب من ذلك اننا لو كنا منطقيين مع تسلسل العجائب فيه لكان موته بلا حداد عليه ، لأننا لم نفقد عطاءنا منه ، وحسب المفجوعين فيه فى العزاء ، انه وهو ميت لا يزال وقود الأحياء ، ولذلك يجب أن يكون ذكرنا له ولاء لا مجرد وفاء ، لأن الوفاء لماض مقدر فاندثر ، ولكن الولاد لحاضر مستمر يزدهر فيثمر.
فلا أظن أن حيا فى هذا العصر يجهل ما فعل عبد الناصر من أعمال ، وما خلق فيه من آمال ، ولن أكرر عليكم ولكنى أقول انه بدأ الدائرة حينما فاجا الدنيا بالثورة الأم فاستقبله الناس بأعراس شعب منصور على اثم وطغيان مقهور، وكان خير ما قلت مستقبلا به السمع هذين البيتين:
حييتها ثورة كالنار عارمة .. ومصر بين محبور ومرتعد
شبت توزع بالقسطاط جذوتها .. فالشعب للنور والطغيان للهب
ثم انتقل البطل الى الدائرة الثانية من أبعاد حياته ، فانتفض العملاق العربى برأس متطاول الى السماء وقدمين راسخين فى الأرض ومد يديه ليحدد وطنه العربى بجغرافية الحق لا بخرائط الرق فاستقرت أنامل يمناه على الخليج العربى ، واستقرت أنامل يسراه على المحيط الأطلسى ، وظل يهدهد العروبة حتى شبت فكرة فى الرؤوس وتأججت عقيدة فى النفوس وأصبحت نشيدا على كل لسان،
ولقد سمعت من أخى الدكتور رزقانة فكرته فى تلك الدائرة قبل فكرته فى الدائرة التى وصفها فى فلسفة الثورة ، الدائرة الثالثة لأن الاسلام بالعروبة انساج وبها امتد ، فلابد أن تتوحد العروبة لنصبح بنعمة الله اخوانا ، حتى يكون بعث الاسلام على مثل ميلاده فانه لا يصلح أخر هذا الأمر الا بما صلح به أوله ، وقد قلت فى الوقت الذى قام فيه اعداء الاسلام أولا وأعداء العروبة " بمبدأ فرق تسد " . وكنت أيامها فى المملكة السعودية ، ونشرت قصيدة فى صحيفة البلاد خرجت بالبنط العريض قلت فيها :
ياقوم هذا سبيل لأمة التوحيد .. فما العروبة الا الإسلام فى تنهيد
بالعرب ساحة ندوة .. فى كل ناء بعيد
الغرب يعرف هذا .. والشرق غير بليد
فرق تسد أخطائنا .. فلتبحثوا عن جديد
وحين دانت قلوب العرب للعقيدة عزت عليه بعض قوالبها ، ولكن هل توقف الرجل؟ ، لا , بل ينصرف وليقفز الى الدائرة الثانية وهى الدائرة الانسانية بكل ما فيها من شيوع وأجناس وأموال ومبادئ ومذاهب ، وقد أعانه على ذلك ايمانه العميق بكل عقائد الحق والخير والجمال ، وأعانه على ذلك اسلامه بكل ما فيه من تعاون وتواد ، وتحاب، وحرية واخاء ومساواة وانطلاق وطموح ، ليحقق المستخلف فى الأرض مطلوب الله منه ، وهو أن يستعمرها وأن يحملها الى آفاق الرفاهية والحضارة والمدنية.
كان رحمه الله _ كما قال اخوانه أمام كل ثورة تحررية بالايحاء والقدح ، ووراءها دائما بكل الامكانات والمنح ، فوضع البطل بصماته الانسانية على التاريخ المعاصر ، ولذلك لن يجرؤ قوة فى الأرض أن تزحزح المظلومين عما لقنهم جمال من مبادئ للآباء على الضمير والانتفاض على الظلم والنهضة الى الآمال الواسعة الوارفة ، ولن تستطيع أى قوة فى الأرض أن تسلب المكاسب التى ادتها انجازاته ولا أن تحجب الآفاق التى أعلنتها تطلعاته ، وبذلك كله يقضى على قلة الفراغ المزعومة بعده.
ان الزعيم الذى يترك بعده فراغا زعيم انانى لأنه يحكم بمبادئ من رأسه ، فاذا ما انتهى قضى على نظام أسسه ، وهو زعيم أنانى ايضا لأنه يحب أن يفقد الخير بفقده ، ولكن زعيمنا لم يكن من هذا الطراز لأنه لم يكن زعيما فحسب ، وانما كان أستاذ زعامة ، ولم يكن ثائرا فحسب ، وانما كان معلم ثورة ودارس مبادئ ، وكانت عبقريته فى غرس هذه المبادئ أنه أشاعها فلم يجعلها خاصة بفئة دون فئة حتى مرغ بها النفوس كل واحد حتى يكون كل واحد صورة طبق الأصل مما عند الحاكمين ، حتى لا يخدع محكوم بعده بغفلة من حاكم أو جبروت من متسلط ، وأن أمة فجعت فيه هذه الفجيعة أكدت كل ذلك ، وأكدت صدقها فيما قالت له فى حياته " كلنا ناصر" .. ولذلك نراها حزنت عليه أعمق الحزن ، ولكنها مع ذلك عرفت كيف تقبض على الزمام بحزم ،
اللهم اجعل لطفك فى قضائك رحمة واسعة ونعيما مقيما لعبدك جمال الذى جعلت مطلعه من فلسطين ومغربه فى فلسطين ، ونسألك يارب أن تقر روحه فى الخلود بتحريرها من خنازير البشر ، وأن توفقنا فى اتمام ما خطط له البطل الراحل من الآمال وحدة عروبة وتمكين اسلام وسلام انسانية ،
وأسألك ياربى أن تجزيه الجزاء الأوفى على ما قدم لإسلامك من شيوع وتثبيت وانتشار واعلام ، وعما صنعه فى الأزهر الذى تطور به ليتطور مع الحياة ، وليجعل منه بحق منارة الدين وحملة رسالة الله .
وأخيرا جزى الله بالخير وحيا بالكرامة كل من أسف عليه وكل من واسى فيه وكل من تأسى به ، وكل من اقتبس منه ، وكل من دعى له بخير ، ووفق خلقه العظيم حتى يكون امتدادا لجمال الكلمة الطيبة التى ضرب الله لها مثلا كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين باذن ربها ".
والسلام عليكم ورحمة الله."
ثم جاء الاعتذار غير المباشر لعبد الناصر بعد ذلك بربع قرآن فى حكاية الرؤيا وزيارة القبر.
فهل كان يكره حقا..؟
الدكتور محمود جامع الصديق المقرب من الشيخ الشعراوى والسادات معا ، له كتاب اسمه" وعرفت الشعراوى" أورد فيه اقوالا مثيرا للشيخ وعلاقته بنظام عبد الناصر وقادة الثورة.. يقول الدكتور جامع فى كتابه:"
«بعد وفاة عبدالناصر كان الشيخ في الجزائر، وتولي السادات الرئاسة، عاد الشيخ الشعراوي من الإجازة، وكان شعراوي جمعة وزيراً للداخلية في أول عهد السادات، وزاره الشيخ الشعراوي في مكتبه، وعاد بالذاكرة إلي الميعاد المحدد للقاء الشيخ الشعراوي بعبدالناصر، الذي تأجل حوالي ٤ مرات، ولم يتم عندما كان عبدالناصر ينوي تعيين الشيخ الشعراوي أميناً للدعوة والفكر في الاتحاد الاشتراكي- يقصد أمين لجنة الشئون الدينية بالاتحاد الاشتراكى-، مثلما كان الدكتور عبدالعزيز كامل، وقال الشعراوي، لشعراوي جمعة: هل صحيح أن عبدالناصر عندما كان علي فراش الموت أوصي بأن يكون زكريا محيي الدين رئيساً للجمهورية؟ فأجاب شعراوي جمعة: هذا صحيح، ولكن ذلك لم يتم، لأن تخطيطنا أن نولي السادات، ثم نخلعه بسهولة بعد مدة وجيزة، فقال له الشعراوي: إنني أخشي عليكم منه، فهو ليس بالرجل السهل، وهو رجل ماكر وسيطيح بكم».
ويضيف محمود جامع فى كتابه:«طلب ممدوح سالم - كان وزيراً للداخلية - من الشعراوي إلقاء محاضرة دينية للضباط. وقال له الشعراوي، ليس لدي مانع، ولكن بثمن.
فقال له مازحاً: وما الثمن؟ قال: أن أزور شعراوي جمعة ووجيه أباظة في السجن وفاء مني لهما. فقال له: سأرد عليك بعد ساعة لتقبض الثمن، ورد عليه ممدوح بعد ساعة، وقال للشيخ: إنهما في مستشفي المعادي، وأنه سيحضر إليك مرافق ليصاحبك في زيارتهما والانفراد بهما كيفما تشاء في حديقة المستشفي، وذهب الشيخ وزارهما، وأخذ يمزح مع حبيبه وجيه، وقال له: إن لسانك هو الذي أدخلك السجن وكثيراً ما نصحتك، فقال له وجيه: الحمد لله، فقد حفظت في السجن حتي الآن نصف القرآن، فقال له الشيخ: فلتبق حتي تحفظ النصف الآخر أيضاً، وضحك وجيه. وقال له: اعمل معروف، أريد أن أحفظ النصف الآخر في منزلي».
أما الشيخ عبد الرحيم الشعراوى ابن الشيخ الشعراوى فقال فى حديث له فى مجلة " نصف الدنيا" ان والدى كان أقرب في داخله إلي عبدالناصر ونظامه من السادات وهو بريء من تلك الاتهامات، وهي كانت وشايات من أعدائه، وقد دافع الشيخ بنفسه ضد الاتهامات، بأنه لم يكن بينه وبين قادة الثورة أي عداء، فلماذا العداء من الثورة، وهي التي علمت له أولاده بالمجان، وعملت علي تحقيق مبادئ العدل والحرية، وما قيل عن أنه صلي ركعتي شكر لله عند حدوث النكسة في ١٩٦٧، رد هو علي هذا الاتهام بأنه صلي لله بعد هذه المصيبة التي ألحقت بالبلد، صلي كي يكشف الله عنا هذه المصيبة، وليس شماتة في مصر، ولا في النظام».
المفكر الناصرى حسنين كروم فى مقاله بالمصرى اليوم فى عام 2006 يفسر تلك الحالة أن الشيخ أراد مجاملة السعودية بالهجوم على عبد الناصر، معتقداً أن إظهاره العداء بهذه الدرجة للزعيم قد يرضيها، خاصة أن وقائع كثيرة تكشف عن عمق العلاقات بينه وبينها.
الشعراوى والسادات
تأتى علاقة الشيخ الشعراوى بالرئيس الراحل أنور السادات محفوفة بالتساؤلات حول طبيعة العلاقة بين الرجلين وكيف تقاربا وسر التقارب بينهما وماذا اراد كل منهما من الآخر.؟
الدكتور محمود جامع – الذى كان مقربا من الرجلين- يقول :"إنه كان حلقة الوصل بين الرجلين، فقد دبّر لقاءً بينهما في منزله في طنطا. وبحسب جامع، كانت العلاقة بينهما خاصة جداً إذ لعب الشعراوي دوراً كبيراً في تعميق مفاهيم الدين عند أنور السادات. وعاهد الرئيس الراحل الشعراوي في منزله وهو يضع رأسه في حجره والدموع في عينيه بقوله له: أشهد الله أن أحفظ لهذا البلد إسلامه وأزهره وأن أحميه من الشيوعية ومن الإلحاد وأن أنذر نفسي لذلك وأن أرفع الظلم عن كل مظلوم وأن أفرج كربة كل مسجون وكل سياسي وأن أعيد الحق إلى نصابه وأن أسعى إلى الحكم بدين الله وشريعته الإسلامية.
أحمد بان الباحث في شؤون الحركات الإسلامية يرى إن العلاقة بين الشيخ والرئيس اتسمت بالتوظيف المتبادل، فكل طرف كان حريصاً على إقامة علاقات جيدة مع الطرف الآخر لتأمين مكاسب معينة، بمعنى أن السلطة كانت تريد إثبات وتدعيم مشروعيتها من خلال التقرّب من الرموز الدعوية، فيما كان الدُعاة وعلماء الدين يريدون توسيع هامش الحركة والحصول على مكاسب أكبر للدعوة، عبر إقامة علاقات جيدة مع السلطة. وبرأيه، هذا النوع من العلاقات ليس جديداً وليس مرتبطاً بالشيخ الشعراوي تحديداً بل يعود إلى عهود سابقة. فعلى سبيل المثال، كان شيخ الأزهر حسن العطار يحتفظ بعلاقات جيدة جداً مع محمد علي باشا وكان حرصه على هذه العلاقة نابعاً من حرصه على تأمين أكبر مكاسب للمؤسسة الأزهرية، وتحديداً إدخال ما يُسمّى بالعلوم الحديثة إلى الأزهر، كما كان لا يأبه بتوجيه اتهامات له بأنه قريب من السلطة أو موالٍ لها. كان السادات بحاجة إلى تيار ديني قوي في المجال العام لمقاومة رواسب اشتراكية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر التي تجذّر وجودها في الحياة المصرية، بحسب الباحث في العلوم السياسية عمار علي حسن. يوضح حسن لرصيف22 أنه كان لا بد من وجود مُبرر ديني لتوجهات السادات اليمينية، والتي هي في الأصل سياسية بحتة. وفي مسعى لإقناع المصريين بهذه التوجهات تم تقديمها باعتبارها رد اعتبار للدين في الحياة الاجتماعية المصرية.
برزت التوجهات الدينية للسادات وتم بناء ما سمى بدولة العلم والإيمان. وحدث تبادل المنافع بين الشيخ والرئيس، فاستفاد السادات من الشعراوي باعتباره رئيسا متدينا، واستفاد الشيخ بأن فتحت أمامه وسائل الإعلام المملوكة للنظام من تلفزيون إلى إذاعة وصحف قومية فأصبح هو الواعظ الشعبي لدى الناس ووصل إلى القاعدة الجماهيرية الكبيرة وهو ما لم يتاح للعديد ممن تفوقوا عليه علماً.
وفي كتابه "الثقافة الشعبية في العالم العربي: الفنون، السياسة والإعلام"، يقول الكاتب الإنكليزي أندرو هاموند إن النفوذ الكبير للشعراوي بدأ في البزوغ عقب هزيمة 1967 أمام إسرائيل وتراجع القومية العلمانية. في تلك الظروف قاد الشيخ حملة إسلامية كبيرة للعودة إلى القيم الإيمانية التقليدية، مُستغلاً ما خلّفته محاولة التوسّع المديني من تفشٍ للعشوائيات الفقيرة، وأصبح صوت ملايين الصامتين ممَّن لا يحبّون العلمانية ولا يهتمون بالإدلاء بأصواتهم في صناديق الانتخابات ولكنهم يشاهدون التلفزيون بشكل كبير جداً. اتجهت أنظار السادات إلى الشعراوي في تلك الفترة، وتأسس بينهما ائتلاف قائم على التوافق والمصالح المتبادلة. كلاهما كان يخشى نفوذ اليساريين والشيوعيين. مستنداً إلى سنوات عمله في السعودية وما له من تأثير كبير هناك، أرسل السادات الشعراوي إلى السعودية، قبل حرب 1973، لإقناعها بتمويل حربه القادمة، بحجة أنها تخاض لمحو أخطاء سنوات حكم سلفه جمال عبد الناصر. وبعد أحداث انتفاضة الخبز عام 1977، والتي وصفها السادات بأنها أعمال شغب قادها متمردون شيوعيون وأسماها " انتفاضة الحرامية"، اتخذ الرئيس السادات قراراً واعياً بجعل الشعراوي نجماً تلفزيونياً، ليكون ذراعاً إعلامية له، وكان قد عيّنه وزيراً للأوقاف عام 1976. وطوال فترة السبعينيات من القرن الماضي كان الشيخ مثل راسبوتين للقيصر الروسي المُمثل في الرئيس.
لم يخلُ الأمر من بعض الخلافات، إلى درجة دفعت كثيرين إلى القول إن سبب استقالة الشعراوي من الحكومة هو زوجة الرئيس التي جرت بينها وبينه مشادات. أبرز تلك المشادات جرت حين قالت جيهان السادات للشعراوي: أريدك أن تعطي محاضرة في شهر رمضان لنساء نوادي الليونز والروتاري، فقال لها: موافق ولكن بشرط أن يحتشمن في لبسهن وأن يكون مظهرهن لائقاً بمحاضرة دينية. وافقت جيهان، ولكن حينما ذهب الشيخ إلى المحاضرة وجد الحاضرات متبرجات، وفق رؤيته، وبعضهن تدخنّ السجائر في نهار رمضان، فغضب غضباً شديداً وأصر على مغادرة القاعة دون إعطاء المحاضرة بعد أن قال لجيهان: "الاتفاق لم يكن هكذا".
واقعة شهيرة ثانية وقعت بينهما عندما حاولت السيدة المصرية الأولى السابقة كسب تأييد الشعراوي لقانون الأحوال الشخصية، أو ما سُمي وقتها بـ"قانون جيهان"، ولكن الشيخ رفضه باعتباره مخالفاً لمبادىء الشريعة الإسلامية.
الشعراوي لعب دوراً أساسياً في تدعيم سلطة السادات، ومن هنا كانت مكافأته تولّيه وزارة الأوقاف التي استخدمها كمنبر لنشر أفكاره الدينية. خلال فترة عمله البسيطة كوزير، حدث موقف هام هو استجواب الشعراوي حول انحرافات السكرتير العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية توفيق عويضة، واتهم الشيخ بأنه لم يتصدَّ لتلك الانحرافات وغضّ بصره عن تجاوزاته. ظل الشعراوي يماطل في الاستجواب ويؤجله، حتى حصل. وخلاله خرج عن السياق وراح يدافع عن السادات وقال: "والذي نفسي بيده لو كان لي من الأمر شيء لحكمت الرجل الذي رفعنا هذه الرفعة وانتشلنا مما كنا فيه إلى قمة مَن لا يُسأل عما يفعل".
ظل الشعراوي مخلصاً للسادات لفترة طويلة إلا أنه حدثت بينهما بعض المواقف الخلافية.
في كتابه "الشعراوي والسادات"، يذكر محمد الباز أنه أثناء أداء اليمين الوزارية، تصرّف الشيخ بعقلية رجل الدين فأضاف جُملة "إن شاء الله"، ورد الرئيس بالضحك على هذه الإضافة. أبرز هذا الموقف اختلاف الفكر الديني عن الفكر السياسي. وأثناء حفل أقامه السادات لنظيره الروماني نيكولاي شاوشيسكو، وجلس الشعراوي في الصفوف الأمامية للمدعوين إليه، تفاجأ الشيخ بقدوم الراقصة نجوى فؤاد إلى الحفل للرقص، فأدار ظهره لها وحين لمحه السادات أرسل له رئيس الوزراء يقول له: "خلي الشيخ يتعدل"، ليجيبه الشيخ: "أنا برضه اللي اتعدل... اتعدل انت"، وترك الحفل. وفي أحد خطاباته، وصف السادات الداعية أحمد المحلاوي بالكلب، فانتفض الشعراوي وأرسل برقية إلى الرئيس جاء فيها: "إن الأزهر الشريف لا يُخرّج كلاباً بل علماءً أجلاء ودعاة أفاضل". بعد أقل من عام في منصبه، قرر الشيخ التنحي عن مهامه الوزارية فرفض السادات الأمر في البداية وقال له: "انتظر حتى أُقيل الوزارة بأكملها"، وبعد محاولات تقرر إعفاء الشيخ من عمله كوزير. وفي لقاء تلفزيوني، قال الشعراوي إنه لم يكن موظفاً عند أحد أبداً، وإنما كان موظفاً عند الله فقط.
رحم الله امام الدعاه فى ذكرى وفاته..ورحم الله ناصر والسادات