كانت الساعة التاسعة صباحًا، يوم 25 يونيو، مثل هذا اليوم1968، حين استقبل البابا كيرلس السادس بطريرك الأرثوذكس، الرئيس جمال عبد الناصر وبصحبته إمبراطور أثيوبيا «هيلاسلاسى»، لافتتاح مبنى الكاتدرائية الجديد فى العباسية.
اصطحب الرئيس وفدًا يتكون من حسين الشافعى نائب رئيس الجمهورية، وأنور السادات رئيس مجلس الأمة، وعبد الخالق حسونة أمين عام جامعة الدول العربية، حسبما تذكر جريدة الأهرام فى عددها الصادر يوم 26 يونيو 1968، مشيرة إلى حضور قداسة البابا كيرلس السادس وأعضاء المجمع المقدس للكنيسة القبطية، وضيوف قداسة البابا من أنحاء العالم من ممثلى كنائس العالم من نيوزيلندا والهند جنوبا إلى الدنمارك والهند شمالا ومن اليابان والفيليبين والاتحاد السوفيتى شرقا إلى كندا وأمريكا غربا.
جاء ذلك بعد أن شارك الرئيس أيضًا فى إرساء حجر الأساس يوم 24 يوليو 1965، وكان مشهد الافتتاح مهيبا، شهدت كلمات من البابا كيرلس السادس، وبطريرك أنطاكيا المشرق، وباقى رؤساء الكنائس والوفد الدينية، وبعدها ووفقًا للأهرام: «أزاح الثلاثة، عبد الناصر وهيلاسلاسى، وكيرلس السادس، الستار عن لوحة رخامية كٌتب عليها بماء الذهب تاريخ الافتتاح: «بسم الله القوى.. فى يوم الثلاثاء 25 يونيه 1968 الموافق 18 بؤونة 1684، فى ذكرى العيد المئوى التاسع عشر لاستشهاد القديس مار مرقس».. وبعد الظهر فى نفس اليوم خرجت الوفود القادمة من جميع أنحاء العالم لحضور الاحتفالات الدينية فى مسيرة مقدسة على الطريق الذى سلكته العائلة المقدسة والسيد المسيح مازال طفلًا».
شارك عبد الناصر فى هذا الاحتفال رغم مرضه، وقبل أيام من توجهه إلى موسكو فى زيارة بدأت يوم 4 يوليو 1968 لإجراء مباحثات مع القادة السوفيت حول احتياجات القوات المسلحة من السلاح، استعدادًا لخوض معركة تحرير الأرض، حسبما يذكر طبيبه الخاص الدكتور الصاوى حبيب فى مذكراته، مؤكدًا: «كان اهتمام الروس بصحة الرئيس كبيرًا»، ومشيرًا إلى قيام أكبر الأطباء الروس فى تخصصات القلب والباطنة والسكر والعظام بفحصه أثناء هذه الزيارة.. يذكر الكاتب الصحفى محمود فوزى فى كتابه «البابا كيرلس وعبد الناصر»: «صعد عبد الناصر والبابا وهيلاسلاسى لإزاحة الستار عن اللوحة التذكارية، فأمسك عبدالناصر بيد البابا متألمًا ومتوكئًا، وصدرت عنه «أنة خفيفة»، فسأله البابا: «مالك يا سيادة الرئيس، فيه حاجة، فيه أى ألم، طيب دا أنا اللى حقى أتألم من أثر الجلطة التى أصابتنى فى العام الماضى.. رد عبدالناصر: أنا أشعر بألم فى ساقى.. رد البابا: ولماذا لم تخبرنا وكنا على أتم الاستعداد للتأجيل حتى تتمكن من الشفاء، فرد عبد الناصر: لا أنا سعيد بذلك».
جاء بناء الكاتدرائية الجديدة فى العباسية فى مناخ سياسى يخلو من الطائفية، كما كان تتويجا لعلاقة حميمية ربطت بين عبدالناصر والبابا كيرلس السادس الذى تولى منصبه عام 1959، يكشف البابا شنودة، للدكتور غالى شكرى فى كتاب «الأقباط فى وطن متغير»: «كان جمال عبد الناصر على علاقة طيبة بالبابا كيرلس، وقد وضع الحجر الأساسى للكاتدرائية، ولهذا الحدث الكبير قصة، كان قد وقع اعتداء على كنيسة فى إحدى ضواحى الأقصر، واجتمع المجمع المقدس لهذا السبب وكتب بيانًا وزع على جميع الكنائس، والذى حدث كما سمعت أن اتصالًا تم بين محمد حسنين هيكل وبين أمين فخرى عبد النور والأنبا صموئيل أسقف الخدمات الراحل بغية إيجاد حل للمشكلة، وقام الأستاذ هيكل بمقابلة الرئيس عبدالناصر وشرح له الموقف، وكان الحل أن بادر الرئيس بوضع حجر الأساس للكاتدرائية، وتبرع بمبلغ مائة ألف جنيه، وقام الرئيس بحضور افتتاح الكاتدرائية، مما كان له وقعه الطيب فى نفوس الأقباط»..يضيف البابا شنودة: «فى هذا السياق يجب أن نسجل العلاقة الطيبة بين عبد الناصر والإمبراطور الأثيوبى الراحل هيلاسلاسى، وعلاقة هيلاسلاسى بالكنيسة القبطية التى هى الأم الشرعية للكنيسة الحبشية، وكانت هناك زيارات متبادلة بين هيلاسلاسى والبابا كيرلس، العلاقة بين عبدالناصر والكنيسة، بالإضافة إلى أن عبد الناصر عامل التطرف الذى يرتدى ثياب الدين بحزم دون مساومة أو تراجع».
يجيب البابا شنودة على سؤال لشكرى حول تأثير الإجراءات الاجتماعية فى عهد عبدالناصر بالإيجاب والسلب على المشاعر الطائفية، قائلًا: «جمال عبدالناصر كان يفكر فى البلد دون تفرقة بين مسيحى ومسلم، فلما قام بالإجراءات الاجتماعية من تمصير وتأميم كان يفكر فى البلد لا فى الطوائف والأديان.. كانت سياسته وطنية عامة، أعطته شهرة عربية ودولية».
انتهى احتفال الافتتاح، وانصرف عبدالناصر وهيلاسلاسى، لكن طقوس الاحتفالات استمرت لليوم الثانى، ومعها الحديث عن أسرار بناء الكاتدرائية الجديدة، فماذا كان فيها؟.