عام مر على تلك الليلة الرهيبة، التى كان الأنبا أبيفانيوس أسقف ورئيس دير أبو مقار، يستعد فيها لحضور صلوات التسبحة فجرًا خارجًا من قلايته فى طريقه إلى الكنيسة، حتى استقبلت رأسه ثلاث ضربات قاتلة من الخلف، قسمت جمجمته إلى نصفين وظل متروكًا غارقًا فى دمائه، جريمة القتل التى تم الحكم فيها بإعدام الراهبين المشلوحين إشعياء وفلتاؤس المقارى غيرت فى الكنيسة كل شىء، فيمكن للمؤرخين تقسيم تاريخ الكنيسة بعد تلك الليلة إلى مرحلتين، ما قبل وما بعد مقتل الأنبا أبيفانيوس.
لم تكن جريمة مقتل الأنبا أبيفانيوس مجرد حادثة قتل عادية، تجرأ فيها راهبان على قتل رئيسهما العالم الشيخ، إنما كانت حلقة من صراع ممتد بين رجل حاول أن يحافظ على رهبنة الكنيسة الأولى، طقوس الآباء الأوائل الذين تأسست على يديهم رهبانية انطلقت من مصر إلى العالم، وبين من أغراهم المال فأنساهم أنفسهم ورأوا من جلابيبهم السوداء الكهنوتية وسيلة لكسب المال وخداع الأقباط، حتى إن تسجيلا صوتيًا ظهر بعد الحكم على إشعياء المقارى المتهم الأول يروى فيه لزميله فى الدير كيفية خداع الشعب القبطى بتلك الهالة التى يضفيها الكهنوت على الرجال حتى إن البسطاء من الأقباط يصدقون من «أبونا» كل شىء وإن قال الكلمة وعكسها فى آن واحد، فهو الكاهن الذى لا ينطق عن الهوى ولا يأتيه الباطل من فوقه ولا من تحته.
دفع الأنبا أبيفانيوس دماءه ثمنًا لضبط الحياة الرهبانية، حتى إن ورقته التى قدمها لمؤتمر ضبط الرهبنة الذى سبق وفاته بسنوات، اتخذها البابا تواضروس روشتة لإصلاح الحياة الرهبانية بعد مقتله، وأصدر البطريرك بعد الحادث بأيام القرارات الاثنى عشر المعروفة بقرارات ضبط الرهبنة وهى قرارات تنص على تقنين الزيارات والرحلات إلى الأديرة بالشكل الذى يضمن عدم انفتاحها على العالم الخارجى حتى لا يضيع الهدف الرئيسى من حياة الوحدة تلك، بالإضافة إلى إجبار الرهبان على الانسحاب من كافة مواقع التواصل الاجتماعى من أجل التفرغ لصلواتهم وعباداتهم وعدم الانشغال بشهوات الحياة الدنيا، مع تقنين الحصول على رتب الكهنوت التى اعتبرها الأنبا أبيفانيوس فى عظة سابقة دخيلة على الحياة الرهبانية، وسببا فى الحرب بين رهبان الدير الذين أغرتهم شهوة المناصب وأنستهم أنفسهم.
كذلك فإن الجريمة دفعت البابا تواضروس لسياسة التفريق بين رهبان دير أبو مقار الذين شكلوا جبهة ضد الأسقف المغدور، وأمر بتوزيعهم على الأديرة القبطية فى المحافظات إذ كان من بينهم القس زينون المقارى، شاهد الإثبات ربما الوحيد على ارتكاب إشعياء المقارى جريمة القتل، ولكنه لقى مصرعه بشكل غامض فى الدير المحرق بأسيوط قبل يومين من شهادته أمام محكمة جنايات دمنهور فى قضية مقتل الأنبا إبيفانيوس، ففتحت وفاته الأسئلة أكثر ما وفرت الإجابات، وسط شائعات انتشرت عن انتحاره، واجهها رهبان دير أبو مقار بالصلاة على جثمانه رغم أن الكنيسة لا تصلى على المنتحرين مما رجح فرضيات أخرى تتعلق بوفاته المريبة تلك، حيث شكا ليلتها من آلام فى بطنه، فارق على إثرها الحياة فى طريقه إلى المستشفى.
لم يشأ قطاع من آباء الكنيسة الذين اختلفوا مع الأنبا أبيفانيوس أحد رموز التيار الإصلاحى فى حياته، أن يمنحوه لقب شهيد الإيمان الذى أطلقه عليه تلاميذه بعد مقتله، حتى إن الأنبا رافائيل أسقف كنائس وسط القاهرة اندفع يسحب رتبة «الشهادة» من الأسقف المغدور ويقول: هناك بعض التيارات الشبابية تريد إثبات أن الراحل الأنبا أبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار بوادى النطرون، قد رحل شهيدًا لأجل الإيمان.
وأشار خلال أحد عظاته بالاجتماعات الشبابية إلى أن مقتل الأنبا أبيفانيوس هو «جنائى» ليس له علاقة بالإيمان كما يروج البعض، مؤكدا: لا يمكن القول إن الأنبا أبيفانيوس شهيد لأجل الإيمان المسيحى وذلك لأنه لم يقتل على خلفية أسباب إيمانية وعقائدية كما يحاول البعض إثبات ذلك.
فى المقابل، فإن البيانات الرسمية التى صدرت عن المقر الباباوى بالكنيسة طوال العام الفائت كانت قد وصفت الأنبا أبيفانيوس بالشهيد، وفى ذلك يقول الباحث اللاهوتى أمجد بشارة وهو أحد تلاميذ الأنبا أبيفانيوس إن الأسقف المغدور استشهد بسبب حفاظه على النظام الرهبانى داخل دير أبو مقار بعدما رفض قيام الراهب القاتل بجمع تبرعات لحسابه الشخصى، مستغلا مظهره الرهبانى ورفض منحه رتبة الكهنوت، كما أن القاتل اعتدى عليه من قبل، بحسب ما قيل فى التحقيقات، وبحسب شهادة شهود عيان من الرهبان، وكان الأسقف يعلم أنه معرض للاعتداء عليه فى أية لحظة، مؤكدا أن الكنيسة اعتبرت أطفال بيت لحم الذين قتلوا فى جريمة عادية ودون وعى منهم من شهدائها الأبرار، وكذلك اعتبرت الأنبا موسى الأسود والرهبان الذين استشهدوا معه فى أحد الهجمات البربرية فى جريمة سرقة عادية من الشهداء أيضا، وكذلك الـ49 شهيد الذين لقوا حتفهم بدير الأنبا مقار ببرية شيهيت شهداء فى نظر الكنيسة رغم إنهم ضحايا هجمة بربرية من غزاة.
فى ذكرى وفاته الأولى أصدر رهبان دير أبو مقار كتابا جديدا عن الأنبا أبيفانيوس وأهدى الرهبان الكتاب- الذى وصل عدد صفحاته لـ262 صفحة- إلى قداسة البابا تواضروس الثانى.
وفى فصل «صورة عن قرب».. يقول الرهبان: «إنه مرت سنة وكأنها دهر على وفاة الأسقف الأنبا أبيفانيوس هذا الذى اختُطف من الأرض فى غفلة من الزمن ليضم إلى الأبرار، إذ فقدت الكنيسة عامة والرهبنة خاصة أبا راهبا حقيقيا عاش للرهبنة، وأخلص لها ومات من أجلها، كان أسقفا مرموقا له ثقله ومكانته العلمية وكان مشرفا للكنيسة فى أى مجتمع، وعاش عفيفا زاهدا فقيرا متجردا، يرفض أى تمييز أو تكريم، عاش بسيطا فى سائر حياته، ومنذ أن ترهبن لم ينم على سرير بل على حصير، وهو ما أثار تعجب القمص أنجيلوس إسحاق حين حضر وعاين قلاية الأسقف بعد الحادث».
ويصف الرهبان، الأنبا أبيفانيوس بأنه كان نموذجا للانضباط الرهبانى، ولم يكن رجل خصام ولا يميل للمجادلات، ولم يكن يرد الإساءة بالإساءة أو الانفعال بالانفعال، لا تخرج من فمه كلمة ليست فى محلها. وسلط الكتاب الضوء على كلمة للأنبا أبيفانيوس- التى كان مقررا أن يُلقيها فى ذكرى مرور 50 عاما على إنشاء الكاتدرائية المرقسية بالعباسية فى 18 نوفمبر 2018 لكن مقتله حال دون ذلك.
وجاءت الكلمة بعنوان «نشأة الرهبنة القبطية وانتشارها بين كنائس العالم»، ويقول فيها: «إنه بعد أن انتشرت المسيحية فى بلدان العالم القديم، وتغلغت التعاليم الإنجيلية فى قلوب المؤمنين الجدد، شعروا بقرب مجىء الرب، وأحس بعضهم أن الطريق الأفضل هو زهد الإنسان عن ملذات العالم، ليتفرغ للعبادة، ليبدأ الأقباط التخلى عن ممتلكاتهم وممارسة حياة النسك والزهد».
كما نشر الكتاب محاضرة سابقة للأسقف الراحل، حول «الرهبنة والوحدة المسيحية»، قال فيها: «إن العالم منذ عرف الرهبنة وهى رمز للوحدة المسيحية بين كنائس المسيح المتعددة، ومن ترهبن الأب متى المسكين، وجذبت كتاباته أنظار الرهبان من كل الكنائس، وصارت هناك صداقة وعلاقة محبة بين دير أبو مقار والكثير من أديرة الآباء الفرنسيسكان سواء داخل مصر أو خارجها، وفتح الدير أبوابه لكثير من الرهبان لقضاء فترات خلوة روحية فى الدير؛ ما أسهم فى حدوث تبادل خبرات روحية بين الرهبنة الشرقية والغربية».
خلال هذا العام زار البابا تواضروس الدير أربعة مرات كان أولها يوم جنازة الأنبا إبيفانيوس، ثم يوم الذكرى الأربعين للأنبا أبيفانيوس حين جدد رهبان الدير اختيار الراهب بترونيوس المقارى أمينا لديرهم، ثم زاره البطريرك مرة أخرى فى شهر أكتوبر وأخيرا فى إبريل الفائت، وخلال تلك الزيارات حرص البابا على عقد جلسات فردية مع بعض الرهبان اطمأن فيها على أوضاع الدير بشكل دقيق، وذلك وفقا لما أعلنته الكنيسة رسميًا.
بالعودة إلى تاريخ الدير، فإن الحياة الرهبانية فى دير أبو مقار قد استقرت لفترات طويلة دون تعيين رئيس دير مقيم بين جماعته الرهبانية، حتى العام 2012 كان الأنبا ميخائيل مطران أسيوط هو رئيس دير الأنبا مقار رسميًا يقيم فى إيبراشيته وسط الصعيد، بينما كان القمص متى المسكين هو الأب الروحى للدير دون أن يصبح رئيسا له يومًا.
عام 2006، توفى القمص متى المسكين وصار الدير بلا أب روحى حتى عمل القمص كيرلس المقارى على إدارة شؤونه، وظل الأنبا ميخائيل مطران أسيوط رئيسا للدير واستقرت الأمور على هذا الوضع.
جاء العام 2009 الذى زار فيه البابا شنودة الثالث دير الأنبا مقار ورسم رهبانا جددًا ومنح آخرين رتب الكهنوت، حدثت بعض المشاكل بين الرهبان الجدد والقدامى الأمر الذى دفع الأنبا ميخائيل للاعتذار عن رئاسة الدير فقرر البابا شنودة الإشراف على الدير بنفسه وجرت الأمور على هذا النحو إلى أن تمت رسامة الأنبا أبيفانيوس رئيسا للدير عام 2013 فى أول دفعة من الأساقفة يعينها البابا تواضروس عند توليه كرسى البطريرك.
بالعودة لتاريخ وحاضر الكنيسة، فليس من الضرورى تعيين رئيس لكل دير بل يمكن إسناد الأمر لإشراف أحد الأساقفة، ذلك لأن الحياة الديرية فى الأديرة المصرية تقوم على حياة الشركة أى الصلاة المشتركة وعمل اليد وهى حياة بغرض عبادة الله والابتعاد عن صخب العالم فقد كان كل شيخ من شيوخ البرية يعيش فى مغارة مع جماعته الرهبانية مثلما كان الحال فى غالبية الأديرة القبطية مثل أديرة وادى النطرون التى نشأت فيها الحياة الرهبانية ما بين القرنين الرابع والخامس الميلادى دون أن يتولى هذا الشيخ منصبًا كنسيًا.
فى العصر الحديث، فإن تجربة دير السيدة العذراء بأخميم الذى اعترف به المجمع المقدس منذ ما يزيد عن 30 عاما خير دليل على ذلك، فقد صار ديرا عامرًا وعادت إليه الحياة الرهبانية دون أن يتم اختيار رئيس للدير من بين رهبانه، فقد تمت رسامة «تعيين» الأنبا متاؤوس الأخميمى كرئيس للدير منذ أيام وهو أول رئيس لهذه الجماعة الرهبانية منذ اعتراف المجمع المقدس به عام 1979.
الحديث عن تعيين أسقف لخلافة الأنبا ابيفانيوس فى دير أبو مقار يشبه محاولة قراءة الطالع، بعد شهور من وفاته، أشيع أن الأنبا مقار أسقف الشرقية والعاشر من رمضان هو المرشح لخلافة الأسقف المغدور خاصة وهما يشتركان فى عدة صفات أهمها الانفتاح على الطوائف الأخرى والتمتع بسجل أكاديمى فى اللاهوت والعلوم الكنسية ثم سرعان ما تبددت تلك الشائعة حين قرر البابا مواصلة إشرافه على الدير الذى يصعب التنبؤ بمن سيرأسه فى المستقبل إن كان البطريرك يفكر فى ذلك خلال الأيام القادمة.